شوف تشوف

الرأي

حالة شرود سياسي

ينتمي كل من محمد الوفا وعز الدين العراقي إلى جيلين من صفوف حزب الاستقلال يشتركان في أنهما مرا بدهاليز وزارة التربية الوطنية في فترتين متباعدتين. واختلف مسارهما، فقد كانت الطريق سالكة أمام عز الدين العراقي ليصبح وزيرا أول في العام 1986، بعد أقل من عامين على انسحاب وزراء الاستقلال من الحكومة، حيث خلفه محمد الهيلالي على رأس وزارة التربية الوطنية، من دون انتماء حزبي.
كان الموقف استثناء بالمعايير الحزبية، ليس لأن العراقي كان مهادنا يهمه وضعه الاعتباري أكثر من انتسابه الحزبي فقط، ولكن لأن وجوده أريد به التفريق بين الانتماء الحزبي وتحمل المسؤولية، في مرحلة ساد فيها التضييق على العمل الحزبي. وأسعف العراقي أنه مر من إدارة مستشفى ابن سينا، فلا شيء أقرب إلى الانشغال بالأوضاع الصحية من غيره في حياة الأفراد والمجتمعات. وإن كان أطباء السياسة ليسوا مثل حكماء الصحة كما في التعريف المشرقي.
بينما تمسك محمد الوفا، على طريقته اللافتة، باستمرار مشاركته في حكومة عبد الإله بنكيران، وأصبح وزيرا للشؤون العامة بعد استقالة رفاقه في الحزب، ليظهر جليا أن اختياره لم يكن خاطئا مائة في المائة. كما لم يكن صائبا بنفس القدر. وربما كان يتعين قراءته بلغة الإشارات التي تغني إبان الأزمات، وهو من تمرس على مسؤوليات قيادية في الحزب، من الشبيبة الاستقلالية إلى الاتحاد العام لطلبة المغرب، واللجنة التنفيذية، قبل اجتيازه «إبعادا سياسيا» مهذبا إلى سفارات بعيدة. لم يقل أحد أنه أراد به سوءا، فقد أراد بنفسه ما ارتضاه، وبقيت حالته نقيضا بين الالتزام الحزبي والمنظور السياسي، إذ يصعب أن يقف واحد في وجه الجميع.
وكنت حضرت نقاشا أقر فيه مسؤول وازن أن فكرة تعيين القيادي الاستقلالي محمد الخليفة سفيرا لبلاده في بغداد، كانت بدورها من قبيل العزل المؤقت، لولا أن المراكشي الآخر العنيد فطن إلى الحيلة وطرق الأبواب، مُعرضا عن تولي المهمة الدبلوماسية لاعتبارات مقنعة. لكن ذلك لا ينفي ترفع قواعد الانضباط الحزبي. وأدرك الاستقلاليون بعد فترة أنه كان في الإمكان المزاوجة بين أكثر المواقف راديكالية، وما يفرضه الانضباط الحزبي الذي ينسحب بصورة ما على السلوك السياسي. ولكل واحد حساباته.
هل تنبه الوفا إلى أن التحاقه بركب الوزراء المستقيلين يقطع عليه طريق العودة، أم أن إدراكه المسبق بإمكان حدوث انفراج في علاقة الاستقلال برئاسة الحكومة وحزب العدالة والتنمية، سيمكنه من ربح مباراة السباحة ضد التيار والقفز على نتوءات التضاريس؟ والأكيد أن من فكر في جلب أمواج اصطناعية عبر بحر معلب إلى مراكش التي لا بحر فيها، كان يعرف ولع أهل مراكش بالسباحة. تماما كما أن عمدة فاس السابق حميد شباط فكر يوما في أن ينقل برج «إيفل» إلى العاصمة العلمية، كي تتم زيارة مجسده من دون الحاجة إلى حيازة تأشيرة بالغة التعقيد.
بين السياسة والطبيعة حذر دائم من الفراغ. ولا أحد في وسعه الحسم إن كان الوفا ظل سفير الاستقلاليين إلى حكومة عبد الإله بنكيران، أم أن الأخير رغب في إغاظة أتباع حميد شباط من خلال الاحتفاظ بصهر علال الفاسي في حكومته. فالوزير الوفا لم يكن طُعما، لكنه أبقى على خيوط الصلات، ولم يقطع حبل الوريد. ففي بعض الحالات كان الاحتفاظ بشخصيات حزبية في وزارات معينة يتم بالتراضي أو المماحكة.
هكذا لم يثر تولي القيادي البارز في الاتحاد الاشتراكي عبد الواحد الراضي كوزير للتعاون، حفيظة الاتحاديين الذين اصطفوا في المعارضة، على أن الإبقاء على عز الدين العراقي وزيرا للتربية قوبل بامتعاض الاستقلاليين على عهد زعامة محمد بوستة. لأن الموقف كان يخص التشكيك في نزاهة الانتخابات. وعلى منوال ردود الفعل الرافضة لم يتقبل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أن يجمع عبد اللطيف السملالي بين وزارة الشبيبة والرياضة وعضوية الحزب. وقد فعل نفس الشيء، لدى انتقال عبد القادر الصحراوي من المعارضة إلى تدبير وزارة الأنباء في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
من الوزراء أيضا من لم يسمع بانتمائهم الحزبي جهارا ونهارا إلا بعد تحملهم المسؤولية، ربما لأنهم كانوا خارج الصفوف الأمامية، فقد اكتشف الاستقلاليون وزيرا يدعى بوعمر تغوان، لأنه كان مهندسا وقادته مهنته لتولي وزارة التجهيز. ويكاد الوضع ذاته ينطبق على كريم غلاب الذي ينتسب إلى عائلة استقلالية، لكنه مارس مسؤولياته بصفته تقنوقراطيا، قبل أن يصبح قياديا في الحزب. وهنا تبدو التراتبية العائلية أكثر نفوذا.
عندما تولى الزعيم الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي الوزارة الأولى، مهد الطريق أمام جيل من الاتحاديين الغاضبين الذين كانوا ابتعدوا عن الواجهة، وعادوا من الأبواب المشرعة، ولم يلبث بعضهم عن اختيار سياسة الانكفاء إلى حين انقشاع الغيوم التي زادت تلبدا. فالأحزاب برجالها كما الخيول بفرسانها الذين «يسوسونها» بلطف ودهاء وحنكة. ويبقى الفرق بين المتفرجين وحكام مباريات كرة القدم، أن هؤلاء يحتاجون بدورهم إلى اللياقة البدنية التي تمكنهم من القدرة على متابعة أشواط المنافسات، وهم يركضون في كل اتجاه. على عكس المتفرجين الذين يصبحون لاعبين مهرة خارج الملاعب. مع أن أكثرية ملاحظاتهم تكون راجحة وسديدة، نظريا على الأقل.
لم يعد الاستقلاليون إلى الحكومة إلا بعد أن غاب عنها عز الدين العراقي، بل إنهم عارضوه بقوة عبر ملتمس رقابة. وكم تبدو الطريق مختلفة في حالة الوزير محمد الوفا، لأن من الأحداث ما يفرض حتميته على الخصوم والحلفاء. وقد تصح الكتابة عن حالات الشرود في السياسة كما الرياضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى