شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

حاجات موضوعية للثقافـة العربيـة

عبد الإله بلقزيز:

من النافـل القول إن وراء الثقافـة والفكـر فاعـل صانع لا يكون أي منهما من دونه، هو المثقف الأديب أو الفنـان والباحث أو المفكر.

إذا عـدم وجود هذا الفاعل أو شحبت صورتُه، لا تكون ثقافـة ومعرفة أو، إنْ كـانت، تنتحي ركنا هامشيا من الاجتماع. وحينها – حين الغياب أو الضمـور للفاعل الصانـع – لا تنفع الإمكانات الثقافية الموضوعية وإن عظُمت شأنا وحجما؛ لأن من يقـع من صنْعة الثقافـة موقـعَ المحـرك والحائـك هـو في حكم المعطَّـل، الذي بعطالته يتعطـل فعْـلُ تلك الإمكانات والأثَـرُ المنتظـر منها.

تنصرف الملاحظة السابقة إلى التذكير ببديهية في ميدان الثقافة؛ الثقافة فاعلية ذاتية يقوم بها منتِج مقـتدِر على الإنتاج بالأدوات الخاصة بهذا النوع من الإنتاج (اللغة، الأصوات، الصورة، الحركة…). والاقتدار هذا – الذي هو شرط ليكون منتِجا – يَـرُد إلى حيازة المقـتَـدِر لبضاعة ثقافية ابتداء – أدبية أو فنية – ولقابلية توليد أثر أدبي أو فني جديد مما لديه من مخزون ثقافي. والغالب على مبـتَـدَأ هذه الفاعلية أن يكون فرديا، أو من عمل فرد واحد، ثم لا يلبث أن يتكثر الواحد ليصبح جمعا متشاركا – بتفاوت – في صنع الأثـر الأدبي أو الفني (فيلم، مسرحية، عمل أوركسترالي، عمل كاريغرافي راقص…).

عند هذه العتبة من إنتاج الأثر الثقافي ينْماز ما هو ذاتي صرف، في عملية الخلق والإبداع، عما هو ذاتي يَعْـتَـاز إلى شرط موضوعي لتكتمل فعاليته. لا نعني بالشرط الموضوعي في حالة الموسيقى والغناء، مثلا، أن يوجد عازفون على الآلات الوترية والنحاسية والإيقاعية ومغنون ومغنيات وكورس، لأن هؤلاء جميعا كفاءات ذاتية؛ ولا نعني به في السينما أن يوجد ممثلون ومتخصصون في الكاميرا والإنارة وغيرهما؛ ولا في المسرح الراقص أن يوجد راقصون وراقصات؛ فهؤلاء أيضا كفاءات ذاتية… حتى وإن كان مبنى أدائها على فاعلية المنتج الأول (= الموسيقي، أو المخرج السينمائي، أو مهندس الرقصات…)، إنما نعني أن توجد معاهد ومدارس تُكـون هؤلاء وتؤهلهم – كل في ميدانه -، ومسارح وقاعات عرض، ومؤسسات لإنتاج الأعمال الفـنية وأخرى لتسويقها… لكي يزدهر الأثـر الثقافي.

والحق أنـه حـتى الأثــر الثـقافي الـذي يتـولـد مـن عـمل فـردي صـرف، ولا يتـطـلـب – بالضرورة – إخراجا في شكل عمل جماعي، مثل الإنتاج الشعري أو الروائي أو القصصي أو التشكيلي أو إنتاج المنحوتات إلخ، يحتاج – هو نفسه – إلى شرط موضوعي تـتوفـر له به الأسباب لكي يتأدّى على النـحو الأمثل، ويصل إلى جمهور المتلـقين. هل يسعنا، مثلا، أن نتصور إمكانا لازدهار الفـن التشكيلي أو النحت من دون وجود متاحف تحتفي بهذه الآثار الفنية وتعـرضها على الجمهور؟ وهل من شعر يزدهر من دون مهرجانات شعرية؛ وهل له – هـو والرواية والقصة والنص المسرحي المكتوب – أن يزدهر من دون مؤسسات للنشر والتوزيع تحمله إلى الآفاق، وتُـخرجه من فرديته المحضة إلى جماعيـته؛ إلى سياقات تداولية يصير فيها مُـلْكاً عاما لقرائه وللمجتمع؟ ثم، فـوق هذا وذاك، هل لنا أن نتخيـل إمكان ازدهار ثقافي مـن دون تشريعات مناسبة للقطاع الثقافي، أو في ظل تشريعات متخلـفة تقييديـة وكابحة، ومن دون إنفاق رسمي على هذا القطاع؟

أينما قَـلَّبْت مسألة الثقافة وشروطها تجد في قلبها مركزية العامل الموضوعي لها؛ العامـل الحامل لها إلى نطاقاتها الاجتماعية التي إليها يتوجـه الإنتاج الثقافي بأدواره ورسالته؛ وهو، للسبب هذا، العاملُ – بل الشـرط – الذي لا غنى لأي ثقافة عنه؛ تقوى بوجوده وتضعُـف بغيابه أو هشاشة بُناه. نعم، صحيح ما قـلنـاه عن إن مبنى الثقافة على اقتدار أهْلها؛ على دأبهم على التحصيل وتوسيع صلاتهم بمصادر الثقافة القومية – قديمها والحديث – وبمصادر الثقافات الإنسانية؛ وعلى تسلحهم بأدوات صنعة الكتابة وعُـدتها، أو صنعة الإبداع عموما؛ وقطعهم الشوط والشوطين في التجريب وصولا إلى حيازة اللغة الخاصة والمنوال الخاص؛ كما على عدم استسهالهم فعل الإبداع وركوبهم السهل فيه إلخ. ومع ذلك كله، وعلى حيوية الحاجة إليه لكينونة الإبداع، فإن حاجة الثقافة إلى شرطها الموضوعي المناسب مما ليس يُـداخِـل عاقلا الشك فيه. يكفي، هنا، أن ندرك أن الفارق بين الثقافة العربية والثقافات المتقدمة – مثل الثقافة الغربية – ليس، ولم يكن يوما فارقا في الملكات والقرائح والاستعدادات، بل هو فـارق في الإمكانات الموضوعية لـدى كل ثقافة في المقام الأول.

وما أغنانا عن القـول إلى أي حد تنعدم فيه للثقافة العربية شروطها الحاملة والدافعة. يكفي المرء أن يلقي نظرة على عدد معاهـد التكوين الموسيقي والسينمائي والمسرحي، وعدد المسارح ودور الأوپـرا وقاعات العرض، وعدد المدن السينمائية للتصوير، وعدد المهرجانات الشعرية، وعدد متاحف الفـن التشكيلي والمنحوتات، وعدد دور النشر الكبرى وشركات التوزيع… ليقف على مقدار الفقر الحاد إلى تلك الشروط الموضوعية، التي تعانيها الثقافة العربية وتتأذى من تأثيراتها السلبية عليها الأذى الكبير.

نافذة:

أينما قَـلَّبْت مسألة الثقافة وشروطها تجد في قلبها مركزية العامل الموضوعي لها العامـل الحامل لها إلى نطاقاتها الاجتماعية التي إليها يتوجـه الإنتاج الثقافي بأدواره ورسالته

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى