جوسلين.. «النصرانية» التي حملت «القفة» لعبد اللطيف اللعبي في معتقلات سنوات الرصاص
يُخطئ الكثيرون في نطق اسمها. فرنسية الجنسية، واشتهر اسمها كثيرا بعد اعتقال زوجها عبد اللطيف اللعبي بسنوات، حيث خاضت حربا ضروسا لتحريك ملف معتقلي سنة 1972، والمحكومين بعقوبات حبسية طويلة بلغت العشرين سنة، على خلفية تهمة ثقيلة تمثلت في استهداف النظام والتحريض على الفوضى.
كان الواقفون في صف الزيارة الطويل، أمام السجن المدني الشهير بالدار البيضاء، ينادونها «جاكلين»، بينما اسمها الحقيقي «Jocelyne». واشتهرت «جوسلين» بينهم لأنها دعت إلى أشكال نضالية كثيرة وحثت عائلات المعتقلين الآخرين على المطالبة بتحسين ظروف الاعتقال التي طالت مجموعة من الشباب الذين كانت لهم ميولات يسارية وأفكار ثورية، لم تكن مقبولة في ذلك الوقت، ووجهت إليهم تهمة ثقيلة تتمثل في تهديد استقرار البلاد، بعد محاكمة شهيرة جرت أطوارها شتاء 1972، أشهرا قليلة على انقلاب الصخيرات، حيث كانت البلاد لا تحتمل مزيدا من الضغط. لكن الأحكام التي وزعت يومها كانت قاسية، وكان حظ عبد اللطيف اللعبي منها متوسطا شأن بعض أصدقائه، فيما بلغت أقسى العقوبات في حق آخرين 20 سنة كاملة، لتتحول قاعة المحكمة يومها إلى مسرح كبير برهن فيه المعتقلون على أنهم تعرضوا للتعذيب على يد الشرطة أثناء استنطاقهم. وكانت «جوسلين» قد قررت أن تذكر دائما بأن زوجها عبد اللطيف وأصدقاءه أدينوا بتهمة خطيرة لم يرتكبوها، وأن الاعترافات التي قادتهم إلى العقاب، انتزعت منهم تحت التعذيب و«التعلاق» ونزع الأظافر وكسر الأضلع، حتى يُطوى ملفهم سريعا.
لكن «جوسلين» اللعبي كانت قد دخلت مسارا مثيرا بدأ بالأيام الأولى لاعتقال أصدقاء عبد اللطيف اللعبي الذين اشتغلوا معه في نشر مقالات فكرية في مجلة «أنفاس» الشهيرة، بالإضافة إلى طلبة آخرين كانوا مهتمين بما كان ينشر وقتها. وكانت المحاكمة تتم في أجواء سرية وفي قاعة صغيرة حتى لا يتمكن أقرباء المتهمين من الحضور، لكن «جوسلين» كانت وقتها قد دخلت في حرب مع وكيل الملك وانتزعت رفقة بعض أفراد أسر المتهمين، الموافقة لإقامة المحاكمة في قاعة كبيرة تمكن الأسر من حضور أطوارها. ومن يومها أصبحت «جوسلين» اللعبي، تلك «النصرانية» التي كانت تقف في صف الزيارة لتتزاحم مع عائلات المساجين وتحمل «القفة» التي كانت تهرب فيها الكتب إلى عبد اللطيف اللعبي، حتى في المرحلة التي كان فيها محبوسا في السجن المركزي للقنطيرة. وكانت الأسئلة التي تُطرح عليها، كما صرحت بذلك في أكثر من مناسبة، تحوم دائما حول موضوع سر اختيارها الاستقرار بالمغرب، حتى بعد دخول عبد اللطيف إلى السجن. ووجهت لها نصائح من محامين وأصدقاء للعائلة بأن تتجه إلى فرنسا إلى أن يتم الإفراج عن زوجها على الأقل، وحتى يحظى أبناؤها بمناخ ملائم للدراسة. لكنها كانت مترددة في الحسم في الموضوع، إلى أن انتزع منها جواز سفرها في الفترة التي كانت فيها تفكر في الرحيل إلى فرنسا وانتظار الإفراج عن زوجها من هناك..
أصدقاء عبد اللطيف اللعبي يعلمون أنه أحب «جوسلين» في وقت سابق، وأنهما تزوجا سنة 1964. بل الأكثر من هذا أن زواج «جوسلين» من عبد اللطيف اللعبي لم يكن بموافقة أهلها وإنما ضد رغبتهم، لأنهم كانوا يعارضون أن تتزوج ابنتهم من مغربي يختلف تماما عن الوسط الذي نشأت فيه «جوسلين»، حيث تابعت دراستها وكان ينتظرها مستقبل واعد، قبل أن تتخلى عن كل شيء وتقرر الاستقرار مع عبد اللطيف اللعبي في المغرب. هذا الاختيار كان على حساب أشياء كثيرة تخلت عنها «جوسلين» كانت لتشكل لها امتيازا كبيرا في فرنسا. الضريبة كانت ثقيلة، لأن حياة عبد اللطيف اللعبي في المغرب كانت تحت سيطرة إيقاع عنيف من الأحداث المتوالية. لكن «جوسلين»، بحسب أصدقاء هذا «الكوبل»، اندمجت سريعا مع أصدقاء عبد اللطيف وعائلته وإخوته، حتى أنها استطاعت، وفي ظرف وجيز، أن تتعلم الدارجة المغربية وهو ما ساعدها كثيرا على عيش حياة عادية بالمغرب.
«جوسلين» جربت حياة الاعتقال، فبعد أن استأنست بأفراد البوليس الذين كانوا يطرقون باب العمارة التي كان يستقر بها عبد اللطيف اللعبي باحثين عنه، كانت هي الأخرى على موعد مع تجربة مماثلة عندما كان عبد اللطيف مسجونا. فبعد أن استبد بها القلق سنة 1972 على مصيره، لأنه كان مختطفا، ولم يظهر له أثر إلا قبل موعد المحاكمة بأيام، تساءلت كثيرا عما كان يجري داخل المعتقلات السرية. كانت هي الأخرى على موعد مع تجربة رأت من خلالها ما كان يمارس من عمليات تعذيب في المقرات السرية. تم استدعاؤها لتجيب عن بعض الأسئلة، وطلب منها أفراد البوليس مرافقتهم، وأحست بأن الاستدعاء يحمل خطورة ما وأن الوعد الذي تلقته من البوليس بأن تعود إلى بيتها بعد ساعة لم يكن صادقا، فطلبت من أبنائها الصغار أن يتصلوا بصديقة لها لترعاهم في غيابها، ورافقت البوليس.
كان إحساسها صحيحا لأن الاستدعاء الشفهي تحول إلى عملية اختطاف، وقضت «جوسلين» أياما، للتحقيق معها على خلفية رسائل وجدت في حوزة عبد اللطيف اللعبي، وتحمل توقيعها. مورس على «جوسلين» ضغط نفسي كبير لتنهار وتعترف في الأخير بأنها كانت تقوم بتهريب الرسائل إلى زوجها أثناء الزيارات داخل السجن، وأنها ساهمت في أنشطة سياسية محظورة كانت سببا مباشرا في سجن أصدقائه، وأطلق سراحها في الأخير بعد أن عاشت تجربة داخل المعتقل السري.
لم يكن احتجاز«جوسلين» إلا محاولة لتخويفها لتبتعد عن المتاعب، لأنها كانت في تلك الفترة تخوض حملة واسعة وسط عائلات المعتقلين للمطالبة بتمكينهم من الحق في زنازين معزولة عن سجناء الحق العام، والمطالبة بتحسين أوضاعهم وتمكينهم من أماكن منفصلة للزيارات العائلية، وهي أمور كلها تحققت لأن «جوسلين» ونساء أخريات خضن وقفات احتجاجية واعتصامات، كان أبرزها محاصرة وزير العدل وقتها في مكتبه، للظفر بالحق في زيارات عائلية منفصلة عن سجناء الحق العام، واصطحاب الأبناء لرؤية آبائهم المعتقلين.
قرابة عشر سنوات أمضاها عبد اللطيف اللعبي في السجن، انتهت بالضبط في الوقت الذي كانت «جوسلين» تفكر جديا في مغادرة المغرب وانتظار الإفراج عن زوجها خارجه، بعد أن تحولت قضية المدانين في محاكمة 1972 الشهيرة، إلى قضية دولية، وأصبحت «جوسلين» معروفة في أوساط عائلات ضحايا الاعتقالات والاختطافات والمحاكمات الساخنة التي ميزت ما يعرف اليوم بـ«سنوات الرصاص»..
تحولت تجربة «جوسلين» اللعبي أخيرا إلى تجربة سينمائية، تحمل عنوان »La »moitié du ciel، اعتمدت على السيرة الذاتية التي كتبتها «جوسلين» سنوات بعد الإفراج عن عبد اللطيف اللعبي، وانتهاء المعركة الضارية التي خاضتها «النصرانية» ضد قضايا الاعتقالات السياسية.