شوف تشوف

الرأي

جهاد امرأة

كانت أما لأربعة أطفال، الزوج ميت والعبء ثقيل، أمية كمثيلاتها من بنات زمانها لم تحمل كتابا ولم تخط حرفا، تسكن في بيت من غرفة ومطبخ وحمام. الحمام تشاركه والجيران، لم يكن بيتا وإنما كان مأوی لكل منكوب غلبته الحياة، العاطلين والمتزوجين الجدد، ممن لن يجدوا مكانا أفضل يؤوي حبهم حديث الولادة، المنزل لا تكف حركته ولا تتوقف، فما بين زوار وأصحاب وشجارات وصراعات وصراخ وضحك وسهرات، كانت تقبع هي وأطفالها.. بصمت وترقب!
لم يكن لها من معيل سوی ذراعين صغيرتين تقومان بما ينوء عن فعله أعتى الرجال، كانت معروفة بقوتها وجلدها وصبرها وإتقانها لأعمال البيت، انتشرت سمعتها الطيبة وعملها المتقن وسط فيلات الأجانب والمغاربة الأغنياء أصحاب الأموال المكدسة.. عرفت ببراعتها في النفخ والطبخ والغسل والاعتناء بالبيت والأطفال، بجديتها وبأدبها، كانت سيدة بيت محترفة، منضبطة، بشوشة وأمينة!
تعود كل يوم بعد عناء يوم شاق تصلب ظهرها بصعوبة بالغة. وعند كل عودة تمر علی سوق الخضر البئيس، تتحين الوقت المتأخر من اليوم، فيكون حينها الباعة قد باشروا جمع أغراضهم ورمي الذابل من الخضر والفواكه والذي فقد منظره وشكله.. وشهية أكله!
كانت مرة تشتري ومرة أخرى يمنحها البائع الذي اعتاد مجيئها مجانا ما قد يصلح عشاء وغداء لأولادها وتنصرف، معظم أكلهم كان عبارة عن خبز وشاي، شاي أصفر، لا يحتوي سوى على وريقات نعناع شاحبة وإن ابتسم لهم القدر، فقهوة!
الغداء غالبا ما يكون طماطم وبيضا، أو طماطم نيئة بباطن قطعة خبز، اللحم كان حظهم السعيد إن وجد!
كانت تحترم كل قرش، تجعل منه استثمارا يستحق الصبر، استطاعت هذه السيدة الكبيرة بوسائلها الصغيرة وبذراعيها الصلبتين الصامدتين وسط وطن لا يمنح أبناءه شيئا سوى الجنسية، أن تربي أولادا وأن تدرسهم وأن تمزق لحمها وتفني شبابها لتوفر لهم أدنی مستويات الحياة الكريمة، كانوا يدرسون فوق صناديق «الكرموس الهندي» بعد تنظيفها حتى لا تتسرب لأيديهم شوكة صغيرة تحرمهم النوم، وتحت ضوء شمعة يستعملونها بحذر كي تدوم أياما طويلة، كانت تطلب الأقلام والكراسات والألوان من كل بيت دخلته لتشتغل فيه، حتى اعتاد سكان تلك البيوت أن يعطوها بصفة دورية كل ما قد يحتاجه ولد من أجل الدراسة..
استمرت سنوات على هذه الحال.. لا تمل ولا تكل، حتى جعلت حلمها الذي راودها يوما حقيقة. ساعدها محسنون رأوا فيها امرأة لا تخشى الواقع، تحمل عزم أمة بحالها.
الأولاد درسوا وتفوقوا، كانوا الأوائل علی الدوام، كانوا متميزين مهذبين ناجحين، كل تخصص في مجاله.. الهندسة والاقتصاد والبحث العلمي، سافروا لأروبا وعادوا بديبلومات مشرفة. يوم جاء ابنها ليخرجها من ذلك البيت الصغير الذي كانت تكتريه وينقلها معه لشقة محترمة تبدأ فيها فصلا جديدا من حياتها، ظلت تتفحص الحيطان التي رافقتها في مسيرة شاقة مثمرة، وتقبلها بعينيها، بكت وأبكت الحي كله!
اليوم هي تعيش منعمة مكرمة في رغد ورفاه، في فيلا مثل تلكم التي كانت تشتغل فيهن، في كنف ابن برها كما برته!
هذا اختصار يسير لحياة عظيمة سكنت بين ظهرانينا يوما ما، مهما طالت الكلمات وامتدت الجمل والتوت العبارات وتشعبت التعابير، لن تستطيع أن تجسد دقيقة واحدة من هول ما لاقت وقساوة ما عاشت، ومن عظيم ما أنجزت!
مثلها بالآلاف.. نصادفهن يوميا في بيوتنا وأحيائنا وأسواقنا، يقاتلن في صمت دفين، يقاومن بروح جيش من الثوار، يجسدن بدقة كلمات محمود درويش دون أن يعرفن من هو، فيقفن على ناصية الحلم.. ويقاتلن بشراسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى