جنكيز خان والخلود وفلسفة الموت والحياة (2ـ 2)
بقلم: خالص جلبي
أمام أي شبهة أو هفوة كان الجلاد والنطع جاهزين، كما حصل لأحد الكتاب المشهورين بتدبيج الرسائل الجميلة، وإذ كلفه الطاغية كعادته في الرسائل المحمولة بشحنة رعب إلى أحد أتابكة الموصل (الولاة) فكتبها بلغة فارسية وافرة الألفاظ البلاغية، وإذ شعر الطاغية أن في الرسالة مزيج من السخرية والمديح، فلم يفهم هل أراد الكاتب إطراءه أو السخرية منه، فأمر بكل بساطة بأن يطير رأسه مثل ديك الحبش. والروؤس التي طارت من سيوفه بلغت الملايين. وعدد من حبل من النساء وصلن إلى جينات ربع سكان آسيا والشرق الأوسط، وكان يجامع جملة من النساء مثل ديك المزرعة (مثله الرئيس الأمريكي المقتول كينيدي، فكان يدخل من الباب الخلفي أكثر من واحدة إلى الفراش).
ومما يروى أن مدينة باميان في إيران كان حظها مرعبا، إذ قتل حفيد الطاغية (موتوجين) في المعركة بسهم طائش، فكشف عن رأسه وزعق وأمر بقتل كل حياة، فلم يبق فيها إنسان أو طير أو زاحف ودابة (ص 311)، وهي اليوم بقايا بئيسة من يد ذلك الملعون. وبالمناسبة فهو اليوم له أثر معتبر في كازاخستان، مع لعنات التاريخ. وبتاريخ 17 مارس 1220م فتح سمرقند، فلم يبق نصف مليون من السكان إلا 50 ألفا، وتم إعدام الحامية التركية البالغة 35 ألفا، مذكرا بمصير قرطاج بيد الرومان. أما عاصمة خوارزم (كاركانج) فأصبحت أثرا بعد عين، فأحرقت وقتل سكانها، ثم فحوا سدنه رجيحون عليها، فاجتمع عليهم الحرق والغرق كما وصف القرآن قوم نوح (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا). وكانت خطيئتهم أن قاوموا أولئك الذئاب. وفي مدينة مرو انتبه (تولوي)، ابن السفاح، إلى أن كثيرا من أهل المدن ينبطحون بجنب القتلى أنهم منهم، فابتدع طريقة جديدة لإنهاء كل أثر للحياة بقطع رؤوس الجميع وبناء أهرامات من الجماجم، فمن هنا نفهم هذه الطريقة المغولية المستحدثة في تاريخ الجرائم. وفيها تم إخراج الجميع والمجرم على سفح مرتفع، فأمر بقتل الجميع بمن فيهم الأطفال والنساء، ولم يبق إلا على حياة أربعمائة حرفي وبعض الغلمان عبيدا. أما الأغنياء فعذبوا بفنون يعجز عنها إبليس، فلما دلوا على مقتنياتهم استولوا عليها وذبحوهم من الوريد إلى الشريان، وأكملوا بناء الأهرامات بجماجمهم.
كان هدف الطاغية المزيد من الحياة لمزيد من سفك الدماء وإبادة الشعوب وتوسيع أملاكه، والمزيد من التمتع بالحظايا ولذائذ الحياة. (إن الإنسان لظلوم كفار). وعندما وصل الفيلسوف الصيني من أقصى الصين إلى أفغانستان الحالية، ارتجت مفاصله من مناظر الإعدامات في معسكر جنكيز خان، كان ذلك في أفغانستان. كان السؤال الأول الذي وجهه إليه، كيف تستطيع أن تمد في حياتي فلا تجعل للموت علي سلطانا؟ أجابه الفيلسوف بدون مجاملة وبشيء من التلطف في العبارات: أيها الخان العظيم أما الموت فلا أحد له سلطان عليه، وأما أن أعدك بمد عمرك فهذا ليس بمقدوري، ولكنني أستطيع أن أدلك أن تعيش على نحو صحي سليم فتستمتع بالصحة والعافية وما قسم الله لك من عمر. امتعضت أسارير الجبار، فقد كان يتوقع جوابا غير هذا. أنهى الحديث من فوره وأرسله إلى خيمته المخصصة. وفي مقابلة لاحقة توجه الطاغية إلى سؤال الفيلسوف عن شيء آخر لا علاقة له بالموت والحياة، بل ألوانا مختلفة من المعرفة، وكان شغوفا بمعرفة الجديد بقدر شغفه بألوان القتل.
إن ظاهرة الإعصار المغولي لم تدرس بما فيها الكفاية حتى الآن، خاصة أن نصيبنا كان مترعا منها كأسا دهاقا من العذاب. وعندما يذكر المؤرخ ابن الأثير عن الاجتياح المغولي للمعمورة في أيامه، يقول إننا لم نعهد هذا الانسياح في الأرض، ولم نسمع به من قبل في كل فتوحات القواد العسكريين، مثل الإسكندر أو قورش، وهؤلاء فتحوا من الممالك في سنة واحدة ما يحير من اتساعه. ولم ينتبه ابن الأثير إلى التقنية العسكرية التي استعملها التتار، فهم لم يخضعوا الأرض لجبروتهم لأنهم كانوا قساة وسفاكي دماء، بل بفعل أساليب طوروها لفترة طويلة حتى تمكنوا من ناصيتها، وبدؤوا في تطبيقها على الشعوب التي ساقها القدر تحت نصلهم المرهف. ومن المصادر الألمانية عرفت أن تطويرا مهما أحدثوه في طرائق القتال، وهي الفرق المحمولة كما فعل النازيون لاحقا بحمل وحدات عسكرية كاملة على ظهر المدرعات. وذكر بعض المؤرخين هذا الشيء، ولكن كخصال فردية عند الجندي المغولي من التحمل والجلد وليس كتكتيك عسكري مطور، وبالطبع لن نتوقع من مؤرخ قرون وسطى أن يصل إلى مثل هذا الانتباه. ولعل ابن خلدون يمثل شذوذا على القاعدة، لأنه ينتبه إلى القواعد اللوجستية في تحرك الجيوش الكبيرة عندما يكذب خبرا أورده أحد المفسرين، أن جيش موسى في التيه كان 600 ألف مقاتل، فقال: (لا يعقل) أن يحارب جيش لا يعرف طرفه ماذا يحدث في الطرف الآخر من هزيمة أو نصر. وبالطبع فإن هتلر استطاع أن يدفع بعملية برباروسا إلى روسيا بخمسة ملايين جندي، ولكن بعد أن تطورت وسائل الاتصالات. وعند المغول بدأ حمل الفرق العسكرية على ظهور الخيل، مثل مدرعات هتلر من مستوى القرن الثالث عشر. ولكن سر جنكيز خان أنه استطاع أن يجمع هذه الذئاب البشرية للمطاردة دفعة واحدة. فكان غضبا وألما لأمم قاست ما قاست، ودفع المسلمون النصيب الأوفى من هذا الألم الأكبر، (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
مات الجبار في 18 غشت عام 1227م وهو دون الستين، ودامت مملكته وامتدت من بعده. وحاول ابنه (قوبلاي خان) من بعده بحملة بلغت 140 ألف مقاتل بأكثر من 3200 سفينة، التهام اليابان فنجت بالتايفون (ظاهرة بحرية تشبه تسونامي)، ثم بدأت بالانهيار، ولكن العالم الإسلامي استيقظ من الدمار لأن المغول وصلوا إلى فلسطين واندحروا في معركة عين جالوت، وصعد التاريخ إلى مسرح التاريخ وخسف الله الأرض بالعرب وأهلهم أجمعين.