جنرالان فقط اقتسما الجزائر واختصراها في منطقة أمنية وأخرى «بترولية»
يونس جنوحي:
رأينا، إذن، كيف أن جيل جني ثمار الثورة الجزائرية وأبناء المتقاعدين من جزائريي الجيش الفرنسي، وصلوا إلى المناصب العسكرية وتربوا في الظل لكي يشتد عودهم مع نهاية السبعينيات، ويخططوا للسيطرة على السلطة من خلال بعض الأسماء العسكرية مثل الجنرال خالد نزار والجنرال الشلوفي. أفراد هذا الجيل من العسكريين استطاعوا التفوق على مدرسة الهواري بومدين التي تربوا في ظلها، والتي كان مبدؤها الأساسي الحقد على المغرب والعمل على إذكاء الصراع في الصحراء المغربية وصرف أموال طائلة لتمويل الانفصال والجماعات المسلحة. وبالنسبة لهشام عبود، صاحب هذه المذكرات، فإن هذه «المافيا» ساهمت كثيرا في أزمات الحدود الجزائرية سواء في اتجاه تونس وليبيا، من خلال دعم إرسال الشبان الجزائريين في الثمانينيات إلى ما يسمى بؤر الجهاد، أو من خلال دعم المسلحين الذين يستهدفون الحدود المغربية، خصوصا في الصحراء.
الرشوة شعار وطني
يقول هشام عبود إن هذا الجيل الذي تدرج في المناصب العسكرية منذ 1958، أصيب بعض عناصره بالخمول العسكري، أي أنهم لم يكونوا يقومون بأي مهام تدخل في صميم الإدارة، بل تفرغوا لما أسماه «حرب العصابات»، حيث جندوا عددا كبيرا من الجنود الصغار وأحيانا بعض أفراد الوحدات المطرودة من الجيش، لينفذوا عمليات مسلحة تتعلق بالسطو على الممتلكات وسرقة معدات البناء وأحيانا المحاصيل الزراعية، وتحويلها لصالح هؤلاء الجنرالات أو الضباط السامين.
هذا الأمر خلق طبقة من العسكريين النافذين جدا، احتموا بظل الجنرالات الذين يقودون البلاد ويؤثرون في السياسة، واغتنوا بسرعة ولم ينسوا أن يؤدوا ضرائب عن هذا الاغتناء.
في المقابل كان بعض العسكريين النزهاء مجبرين على دفع ثمن صفاء ذمتهم المالية، واستثنوا من الترقية والمكافآت لأنهم ببساطة لم ينخرطوا في اللعبة.
الأمن العسكري
من بين أسباب الفوضى التي عمت في الجزائر خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي (أو ما عرف بالعُشرية السوداء)، انتشار الرشاوى في أوساط العسكريين وظهور العصابات التي ظهر أنها كانت تابعة لهؤلاء الجنرالات أو الضباط الموالين لهم. وهي التي كانت مسؤولة عن المذابح التي عرفتها القرى الجزائرية، والتي حاول النظام، ممثلا في العسكر بطبيعة الحال، إلصاق تهمة ارتكابها بتنظيمات سياسية معارضة مثل جبهة الإنقاذ. ومن جهة أخرى حاول الشباب العائدون من معسكرات الجهاد في أفغانستان، والذين ساهم الجنرالات في عملية إرسالهم إلى القتال، دخول المعركة في الجزائر، وهو ما زاد من تأزيم الوضع.
يقول هشام عبود وهو يتناول تلك الفترة: «في منتصف التسعينيات، أقفل كل شيء بتعيين علي التونسي، الذي كان في السابق عسكريا في الجيش الفرنسي، على رأس جهاز الشرطة. والذي أصبح في ما بعدُ ملحقا بجهاز DRS (التسمية الجديدة للأمن العسكري)».
ثم يفصل هشام عبود بعد ذلك في ذكر تقسيم المناطق العسكرية حسب الأهمية، خلال الفترة نفسها، أي منتصف التسعينيات بعد تحديث جهاز الأمن.
يضيف: «المنطقتان العسكريتان كانتا حساستين واستراتيجيتين. الأولى للسيطرة على العاصمة ونواحيها. والثانية، حيث كانت توجد الثروات البترولية. هذه المناطق وضعت على التوالي تحت سلطة الجنرال فوضيل الشريف إبراهيم، والجنرال صاحب عبد المجيد».
هذان الجنرالان كانا يعيشان في ظل الجنرال نزار والقيادة التي تدور في فلكه، حيث كان رئيس الجمهورية بنفسه لا يستطيع مواجهة هذا الفريق الذي يلعب وحيدا في المعلب.
إذ إن تقسيم الجزائر إلى معسكرين، الأول لضبط تحركات الشارع وحركة الأحزاب والمعارضة السياسية، والثاني لضبط الثروة البترولية والسيطرة عليها، كان يعني أن الجيش يطبق سيطرة غير مسبوقة نهائيا في تاريخ الجزائر. بل حتى في عهد بومدين لم يكن الجيش الجزائري بتلك القوة، رغم أن الأخير كان رئيسا للجمهورية، لكنه فوض صلاحيات مهمة للمدنيين. أما عندما وصلت «مافيا الجنرالات»، كما يسميها هشام عبود، إلى قمة المؤسسة العسكرية، فلم يعد أي وجود لسلطة خارج الثكنات.
يضيف هشام عبود أمرا غاية في الخطورة. إذ يقول في هذا الفصل الذي خصصه لشرح كيف استطاع هؤلاء الجنرالات التحكم الكلي في مفاصل الدولة، إن عددا من قدماء المؤسسة العسكرية كانوا يقولون له إن سياسة الجيش الجزائري وتوزيع سلطاته وصلاحياته كان الهدف منها إخماد أي فرصة لثورة في الجزائر. فقد كانوا يعلمون جيدا أنهم يمارسون أعمالا قذرة لنهب خيرات الجزائر، وحاولوا الاشتغال أطول فترة ممكنة مع ضمان فك «فتيل» أي ثورة محتملة.
هذا الكلام كتبه هشام عبود سنة 2002، واستغرق تأكيد هذه المعطيات وقتا طويلا، إذ اتضح في 2018 أن الأمر يتعلق فعلا بمحاولات للجيش إخماد الثورة أطول فترة ممكنة.