شوف تشوف

الرأي

جنازة ولد الخيرية

حسن البصري

بأقل سيول من الدموع، بأدنى طقوس جنائزية، بأضعف نواح وأقصر كفن. كل ما يملكه أصدقاؤه مساحة في الفضاء الأزرق حولوها إلى مأتم للبكاء على صديق رحل دون مسمعين ولا ابتهالات. مات زكرياء ولد الخيرية بعدما ظل يعاني من داء السكري في صمت. مكالمة هاتفية تكفي لدفنه والتشطيب عليه من سجلات دار الرعاية الاجتماعية.
الذين عرفوا الفقيد أجمعوا على مقاومته للمرض، ما أصعب أن تكون مريضا بالسكري وأنت نزيل في خيرية، لا تعترف بوصفات الأطباء ولا يؤمن طباخوها بنظام غذائي استثنائي، فالجميع أمام القطاني سواسية.
الذين تعرفوا على زكرياء أكدوا أنه خرج من بطن أمه وهو يحمل هذا الداء، وحين كان في سن السادسة من العمر انتزعه فاعلو خير من والدته الغارقة في الفقر والمرض، وأحالوه على خيرية عين الشق بقرار يحمل توقيع وكيل الملك.
لم يستأنس الفتى بحياته الجديدة في دار الأطفال، لم يركض في ملاعب كرة السلة ولم يمارس شغبه الطفولي ولم يشارك في المعارك الضارية بين أولاد الخيرية وأطفال دار القاضي بن ادريس، كانت تنتابه نوبات صرع تعفيه من خوض الغارات الخارجية والداخلية.
في سنة 2009 ستقف الحافلات في ساحة الخيرية لترحيله رفقة باقي النزلاء إلى خيرية أخرى في حي آخر اسمها: دار الرعاية الاجتماعية بالحي الحسني، لا فرق بين ترحيل السجناء وترحيل أبناء الخيريات إلا بالقيود واللباس الموحد والسيارات المسيجة.
في الخيرية الجديدة شعر بالاختناق وقرر الانفلات من ضوابط يومية تبدأ بتحية العلم وتنتهي بصفعات على قفا كل من سولت له نفسه التأخر في العودة إلى الدار. لذا انقطع زكرياء عن الدراسة دون أن يشعر به أحد، وأصبح يبيع السجائر بالتقسيط دون أن يشعر به المربي، إلى أن مات وهو يحمل صفة «بائع الديطاي».
مات الولد وفي قلبه غصة لأنه لم ينصف، مات وهو يحن لأيام خيرية عين الشق التي ماتت قبله دون جنازة ولا حفل تأبين ولا قبر ولا شاهد. مات زكرياء وقد أوصى خيرا ببضاعته إلى أن يستفيق من إغماءاته لكنه لم يعد. مات الولد بسبب داء السكري الذي بلغ أعلى درجاته أمام قانون للرعاية الاجتماعية لم يغادر سرير المختبر. الرحمة لك ولتشريعات ولدت مثلك تحمل نفس الداء.
في العمل الروائي المشترك لعبد الرحيم ناصف ومصطفى استيتو بعنوان: «سيرة المهجرين بين الأسماء.. يوميات خيرية عين الشق»، نتوقف عند قصة الطفل رشيد القاضي الذي مات وهو يتزحلق على حافلة «الضواية» تقول شهادات شهود عيان إنه مات وهو يغني للحياة، ولأنه ولد الخيرية فلا أحد طالب بالتشريح ولا أحد طالب بوقفة تأبين ولا أحد رثاه بنصف سطر.
لكن الموت التراجيدي لطفل آخر يدعى «قرفة» كان الأكثر دموية، حيث عثر على جثته خلف البناية، قيل إن مربيا كان يعشق لعبة الملاكمة قد تعلم فيه تقنيات الضرب تحت الحزام، لكن ساعات قليلة أمام المحققين كانت كافية ليعود المربي إلى قواعده سالما، ويصبح المرقد بلا «قرفة»، كما عاد مربون آخرون في ملف الفقيد سعيد الذي ما زالت وفاته غامضة.
في خيرية البرنوصي مات «السعيد» من شدة الشقاء، مات حين تقرر أن يرحل إلى خيرية مكناس مسقط رأسه، لا تعزية ولا بكاء ولا شيء تغير في البرنامج اليوم، الأطفال يصطفون أمام المطعم يمشون بين المراقد والمدرسة، دون مبالاة.
في خيرية للعجزة لم يعد مشهد سيارة الإسعاف يلفت الأنظار فالموت يحلق فوق هذا الفضاء، لكن أن يموت با عروب ويقال إنه رمى بنفسه من النافذة بغاية الانتحار، والبناية «سفلية» فتلك أم المهازل، وقمة السخرية والاستخفاف بروح قيل إنها «عزيزة عند الله».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى