شوف تشوف

الرأيالرئيسية

جمهور لا يحب الحقائق

منذ حوالي عقد أو أكثر دخل العالم في حالة ذهنية لم تعد الوقائع فيها تفيد لا في إثبات الآراء الصائبة، ولا في تفنيد الآراء الخاطئة. فقد صار كثير من الناس، في أمريكا وروسيا والبرازيل مثلا، متشبثين بتحيزاتهم وآرائهم المسبقة ومخلدين لأمان ظنونهم وأوهامهم، بصرف النظر عما تقوله الوقائع وعما تثبته أو تدحضه الأدلة.

ولهذا فقد أصاب من سمى هذه الحالة بذهنية ما بعد الحقيقة؛ إذ من المفترض منطقيا، لو كان لا يزال للوقائع أي أهمية عند البشر، أن ملاحقة ترامب قضائيا بتهم مالية وأخلاقية ستؤدي إلى تناقص شعبيته وشعور أنصاره بالخزي، لكونه أول شخص في التاريخ الأمريكي يهوي بالرئاسة إلى هذا الحضيض، ولكن ما حدث هو العكس. حيث أظهرت الاستطلاعات أن من صوتوا له في 2016 و2020 وأن مسؤولي الحزب الجمهوري أيضا، وحتى زعماء الكنيسة الإنجيلية، يعتزمون التصويت له مجددا.

وقد شرح خبير الاستطلاعات، ويت آيرس، هذه المفارقة قائلا إن الملاحقة القضائية توفر وقودا إضافيا للأسطورة التي يروجها ترامب منذ مدة، عن كونه ضحية دائمة لمكائد الأشرار.

ولكن الأخطر أن سطوة ذهنية ما بعد الحقيقة التي انتشرت بين عموم الناس، ممن لا يصدقون إلا ما يريدون، قد صارت مقوما من مقومات العمل اليومي في مؤسسات إعلامية كبرى. فقد رفعت المنتجة الإخبارية السابقة في شبكة «فوكس نيوز» ، آبي غروسبرغ، دعوى على الشبكة قالت فيها إن مسؤوليها خوفوها لإجبارها على عدم إجراء ما كانت تعتزمه من مراجعات للتحقق من صحة مزاعم ترامب، بوقوع تزوير في انتخابات 2020.

والأدهى أن ملف دعوى القدح التي رفعتها مؤسسة «دومينيون»  لبرمجيات الاقتراع على «فوكس نيوز»، مطالبة بتعويضات بقيمة مليار و600 مليون دولار، يكشف أن مسؤولي الشبكة لم يصدقوا مزاعم التزوير التي كان يرددها ترامب ورهطه، ولكنهم سمحوا رغم ذلك لمذيعي البرامج الحوارية ولضيوفهم بترويج هذه الأكاذيب.

كما يتضمن الملف رسالة وجهتها مديرة «فوكس نيوز»، سوزان سكوت، بالبريد الإلكتروني في دجنبر 2020 إلى مساعدها ميد كوبر تعبر فيها عن غضبها من المذيع أريك شون، لأنه حاول التحقق على الهواء من مدى صحة أحد مزاعم ترامب.

كتبت تقول: «لا بد أن يتوقف كل هذا (..) جمهورنا حانق (علينا). هذا مضر بمصالح المؤسسة». وقال محامو «دومينيون» إن مسؤولي «فوكس نيوز» تعمدوا ترويج الأكاذيب بشأنها (زاعمين كثرة الأعطاب في أجهزة الاقتراع)، لأن القلق كان ينتابهم من خسران كثير من المشاهدين لصالح الشبكات المنافسة الأكثر غلوا في الكذب والتزييف، مثل «نيوزماكس» و«وان أمريكا نيوز».

وكانت سوزان سكوت عبرت يوم 19 نونبر 2020 عن استيائها من عملية تحقق أخرى من صحة المزاعم وقعت على الهواء. كتبت: «لم يعد في وسعي الاستمرار في الدفاع عن هؤلاء الصحافيين الذين لا يفهمون جمهورنا وكيفية تناول الأخبار. ذلك أن جمهورنا يرى أن ما نبثه صار مجرد هراء، وأننا أضررنا بمصداقيتنا لديهم وفقدنا ثقتهم».

وأضافت سكوت أن النتيجة هي أن «فوكس» خسرت 25 ألف مشترك، وأنه «لا يمكننا الاستمرار في الاستخفاف بجمهورنا». أما الصحافية التي قامت بعلمية التحقق، كريستينا فيشر، فقد قالت بعد ذلك إنها شعرت أنها عوقبت لا لشيء إلا لأنها نطقت بالحقيقة.

ومن أغرب ما كشفته الوثائق التي قدمتها «دومينيون» إلى المحكمة، أن «فوكس» شكلت فريقا للتحقق من صحة التصريحات والأقاويل، وأن الفريق توصل يوم 13 نونبر 2020 إلى أن جميع المزاعم التي بثت بشأن «دومينيون» زائفة، ولكن رغم ذلك كله فإن «فوكس» استمرت في بثها. كما أن الفريق راجع نص برنامج كانت المذيعة جانين بيرو على أهبة تقديمه، ونبه إلى ما يتضمنه من أباطيل، ولكن هذا لم يغير من الأمر شيئا.

لهذا كتب مسؤول في الشبكة اسمه، جري أندروز، في إيميل: «إن النص حافل بمزاعم نظرية المؤامرة وسواها من الخزعبلات. وهو مثال آخر يثبت أن هذه المرأة لا تستحق تقديم فترات البث المباشر».

ولكن خطورة «فوكس نيوز» لا تتوقف عند حد إثارة البلبلة حول انتخابات 2020 وما اقترن بهذه البلبلة من عنف واقتحام همجي لمبنى الكونغرس، بل إن الشبكة تمثل خطرا دائما على نزاهة الإعلام وتوازنات الديمقراطية. ولا شك أن جلسات المحاكمة ستجلو هذه الحقيقة أكثر طيلة الأسابيع الستة القادمة.

 مالك التريكي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى