شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

جمهورية جلعاد 

 

 

يشهد العالم كل أربع سنوات مراسم تنصيب رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية، يتم خلالها التسليم السلمي للسلطة في أجواء «ديموقراطية» باردة. أمريكا، التي تتربع على عرش الدنيا كخليفة أيديولوجية وسياسية ودينية لروما القديمة، لا يحتاج شعبها اللجوء للشارع لإسقاط الرئيس، أو إنشاء جيش حر ردا على براميل الفسفور الأبيض، أو الاحتماء بميليشيات تدين بولائها للمعممين. يتداول الأمريكان السلطة بشكل هادئ كبقية شعوب العالم المتحضر التي تعتمد أنظمة حكم تراعي الأعراف الديموقراطية. غير أن روما الحديثة تواجه اليوم منعطفا تاريخيا حاسما بفوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية. لماذا؟ لأن هذا الرجل ومُرِيديه يطمحون لإقامة جمهورية جلعاد على أرض الأحرار وبيت الشجعان.

لكي نفهم حقيقة هذا التهديد، علينا أولا أن نعود بالزمن إلى سنة 1985 التي صدرت فيها رواية «حكاية الخادمة» للكاتبة الكندية مارغريت أتوود. ترسم هذه الرواية مستقبلا ديستوبيا يستولي فيه نظام استبدادي ثيوقراطي على الولايات المتحدة، ويقيم ما يسمى جمهورية جلعاد الدينية المتشددة، حيث تُستعبد النساء وتمحى حقوقهن الإنسانية الأساسية. وفي حين قد تبدو الرواية وكأنها عمل خيالي، فإن تصويرها لمجتمع تحدد فيه الحكومة أدوارا بيولوجية للنساء وتتاجر بأجسادهن ومستقبلهن، له أهمية مقلقة في ضوء الاتجاهات السياسية الراهنة. ففي ظل ولاية دونالد ترامب السابقة، كانت هناك سياسات وتحولات ثقافية يمكن اعتبارها خطوة نحو مستقبل يذكرنا بجلعاد، تشمل هذه الاتجاهات انتهاك حقوق النساء، وصعود المحافظة الدينية في السياسة وتطبيع الخطاب والأفعال الاستبدادية.

إن أحد أكثر أوجه التشابه وضوحا بين رئاسة ترامب والمجتمع الذي تم تصويره في حكاية الخادمة هو تدهور حقوق المرأة. طوال فترة ولايته، دعم ترامب سياسات أدت إلى تراجع حقوق الإنجاب، سيما من خلال تعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا، مما مكنه لاحقا من إلغاء القانون الشهير «رو ضد وايد».

في حكاية الخادمة، يحرم مجتمع جلعاد النساء من حقهن في الاختيار، وخاصة في ما يتعلق بالإنجاب، ويجبرهن على تأجير أرحامهن  للدولة بغية إنجاب أكبر عدد من الأطفال. وفي حين لم تصل الولايات المتحدة في عهد ترامب إلى هذا المستوى من السيطرة على أجساد النساء بشكل كامل، فإن الدفع نحو إلغاء تمويل تنظيم الأسرة وتقويض حقوق الإجهاض يشكل علامة استفهام كبرى. إذا استمرت هذه السياسات دون رادع، يمكن للمرء أن يتخيل مستقبلا تلعب فيه الحكومة دورا أكبر بكثير في تنظيم الخيارات الإنجابية للنساء، وهي فكرة تعكس السيطرة الشمولية في حكاية الخادمة.

إضافة إلى ذلك، فإن احتضان ترامب للأصولية الدينية وعلاقته الوثيقة بالجماعات المسيحية الإنجيلية يمكن أن يكون بمثابة أساس لنظام يشبه جلعاد. في حكاية الخادمة، تستند الحكومة إلى تفسير صارم للعقيدة المسيحية، حيث يتمتع الزعماء الدينيون بسلطة سياسية كبيرة. وبالمثل، انحازت إدارة ترامب بشكل وثيق إلى المحافظين الدينيين، وخاصة الإنجيليين، الذين غالبا ما دافعوا عن سياسات تقيد حقوق المرأة، وتعزز الأدوار الجنسانية وتدعم الهياكل الأسرية التقليدية. كان تأثير المتعصبين الدينيين خلال رئاسة ترامب واضحا في سياسات مختلفة، من موقف الإدارة من حقوق المثليين جنسيا إلى موقفها من استقلالية المرأة الإنجابية. إن الجمع بين القوة السياسية والتأثير الديني هو أحد المكونات الرئيسية في تشكيل دولة ثيوقراطية مثل جلعاد، حيث يُتوقع من النساء الالتزام بمجموعة صارمة من الأدوار الجندرية المتجاوزة وحرمانهن من استقلاليتهن.

بالإضافة إلى هذه العوامل، فإن خطاب ترامب وسلوكه، الذي غالبا ما يكون استبداديا في لهجته، يعكس بشكل أكبر أجواء حكاية الخادمة. غالبا ما استخدم ترامب لغة شعبوية مثيرة للانقسام تشوه سمعة المعارضين السياسيين والأقليات والمجموعات المهمشة. في جلعاد، يتم قمع المعارضة بعنف، ومعاقبة أو محو أولئك الذين يقاومون النظام. وفي حين لم يتماد ترامب إلى هذا الحد، فإن خطابه حول «الأخبار المزيفة» وهجماته على المعارضين السياسيين وتشجيعه للعنف في التجمعات كلها ساهمت في خلق جو خطير من الانقسام والاستبداد. إن تطبيع مثل هذا الخطاب وإضعاف المؤسسات الديمقراطية قد يمهد الطريق لنظام أكثر استبدادية في المستقبل، حيث يتم قمع الحريات، وخاصة حقوق المرأة، تدريجيا.

في ظل إدارة ترامب، شهدنا اتجاهات مقلقة يمكن أن تؤدي، إذا تُركت دون رادع، إلى واقع ديستوبي خالص. غير أن اختلاف وجهات النظر مع ترامب لا يفسد لاحترامي له قضية.. أحترم الرجل رغم أن العديد من مواقفه وأفكاره سامة، عنصرية وذكورية. ولكن شجاعته في الاعتراف بأديولوجيته ومخططاته وتسميته للأشياء بمسمياتها بعيدا عن مساحيق الصوابية السياسية وديبلوماسيات الأفاعي، تجعل منه شخصا يستحق الاحترام.

الأوليغارشية والباطرياركا لم يتوقفا للحظة واحدة ومنذ فجر التاريخ عن حكم العالم. في كل فترة تاريخية كانت تتم اعادة تعليب هذا النموذج السلطوي وإعادة تصديره للبشر على شكل نماذج اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة. لكن السلطة دائما كانت وستظل في يد حفنة من الرجال الأقوياء. ترامب لا يبيع الوهم ولا يكذب أو يتجمل كبقية الرجال. إنه رجل يؤمن بتفوق الذكور وأحقيتهم في امتلاك الدنيا.

أما النساء، اللائي يعتقدن أن فوز جمهوري متعصب قد يؤثر سلبا على المكتسبات الحقوقية للمرأة، غالبا مخطئات..، لأن باستطاعة النخبة الذكورية الحاكمة إقامة جمهورية جلعاد في أي وقت والعودة بنا إلى نقطة الصفر. ولتذهبي حينها أنتِ وحقوقك ومعاهداتك الدولية إلى الكوزينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى