جمهورية الصراصير والعقارب
بقلم: خالص جلبي
ما حدث في بيروت بتاريخ 4 غشت 2020 يذكر بحدث الصحراء الجزائرية، بفارق أن التفجير الفرنسي كان على الأرض الجزائرية وفي الصحراء، أما ما حدث في بيروت فبين الناس وفوق بيوتهم، وهو في الغالب صراع بين بني صهيون والأصابع الإيرانية.
نتابع حديثنا عن السلاح النووي ففي 13 فبراير 1960 م كان السكون يخيم في الصحراء الجزائرية، ولا يعكر هذا الهدوء سوى الريح التي تصفر فوق الرمال الممتدة عبر الأفق، وفجأة يمزق هذا الهدوء إعصار مدمر ورعد مجلجل، ويرتفع عمود هائل من النار عبر السماء، وترتسم في الأفق كرة نارية هائلة، لا يلبث أن يتلو ذلك ارتفاع غمامة من الدخان تأخذ شكل رأس الفطر. إنها فرنسا تجرب السلاح النووي الأول لها، ليس فوق التراب الفرنسي، بل على الأرض الجزائرية، فالجزائر بلد التجارب من كل الأنواع، فهو المستودع الخلفي لنفايات فرنسا! كما حصل لاحقا في سلسلة التجارب الفرنسية في جزر المحيط الهادي (موروروا)، بعد خمس وثلاثين سنة من التجربة الأولى، على الرغم من غضب أهل الأرض وحنقهم جميعا!
كل المنطقة المحيطة بالانفجار تحولت إلى موت كامل ودمار مطبق، فالرمال الناعمة نُفخت في الاتجاهات الأربعة، وتقعر باطن الأرض بفوهة قبيحة، وبرزت ندبة واسعة لا تعرفها الأرض منذ العصر الجوراسي، وتشوه وجه الطبيعة الجميل. تفحمت النباتات جميعا، واحترقت الحيوانات بنار تتلظى. وما كان في مركز الانفجار أو قريبا منه تبخر إلى السماء، بفعل درجة الحرارة التي ارتفعت إلى ما يزيد على عشرة ملايين درجة! وما كان بعيدا عن مكان الظاهرة الكونية الجديدة قضى نحبه من هول الإشعاعات؛ فهذا السلاح يقضي على الحياة باللهب الحارق، أو الضغط الساحق، أو الشعاع الماحق، فهي طاقة لم يحلم بها حتى أبالسة الجحيم!
إلا أن العسكريين الواقعين تحت سكرة القوة ونشوة الجبروت، فغروا أفواههم من الدهشة حينما وقعت أعينهم على عقرب صحراوي في مكان الانفجار، يتحرك بكل اطمئنان، غير عابئ بكل ما يحدث حوله، قد رفع زعنفته بنهايتها السمية المدببة، ملوحا بها يتحدى الجنرالات الفرنسيين!
ولكن كيف نجا هذا الشقي من العاصفة النارية والأشعة الخارقة التي التمعت فوق جحره، ولم تؤثر في قوته بحال؟ فهو يمشي ولا تظهر عليه أي مظاهر للتعب أو الترنح أو الإعياء! وبعد مرور كل هذه السنوات لم يصل العلماء إلى الجواب الذي يروي الغليل عن سر قوة العقرب الصحراوي الجزائري، الذي صمد في وجه الإعصار النووي! إلا أن المعلومات التي أمكن جمعها حول هذا الحيوان المدرع ذي الزعنفة السامة، منذ تجربة الإعصار النووي قادت إلى معرفة مدهشة بخصائص هذا الحيوان، الذي عكف على دراسته العالم الفرنسي (فاشون vachon) لأكثر من ربع قرن، فهذه المقاومة الخارقة للحرارة والأشعة الناجمة عن تفجير السلاح الحراري النووي، قد تكون المفتاح لتطوير مادة دفاعية في جسم الإنسان تقيه من الكوارث النووية للمستقبل، خاصة الجيل الثالث من السلاح النووي (النتروني)، ومن أجل فهم هذا السر الخفي في جسم هذا الحيوان المرتبط بالذاكرة الإنسانية بالخبث والغدر واللدغ، فقد تبين من دراسة طراز حياته وعاداته اليومية، التي تمت في متحف باريس قسم التاريخ الطبيعي، أنه يمتاز بصفات لا يكاد يصدقها الإنسان، فالعقرب (اللداغ) منحنا الكثير من الدروس الملهمة والحكم القيمة.
أولا: فهذا العقرب الذي يصل طوله إلى حوالي عشرين سنتيمترا، لا يجاريه في صومه وزهده فقراء الهنود المستلقين على المسامير الحادة لفترة طويلة، كما لا يصل إلى تحمله في الحرمان من الطعام والشراب أشد النساك، ولا أكثر من يمارس الصيام، فهو يستطيع أن يتابع صومه لمدة ثلاث سنوات كاملة بدون طعام أو شراب.
ثانيا: كما أنه يستطيع كتم أنفاسه تحت الماء متربصا هادئا بدون أي أكسجين، لمدة يومين بالكامل!
ثالثا: وإذا غطس في الثلاجة في درجة الحرارة تحت الصفر، ونقل بعدها إلى درجة حرارة الصحراء ذات الستين درجة؛ فإنه يحافظ على حيويته، ويستطيع الارتكاس بالسرعة نفسها فيقفز للدغ والدفاع، فهو يتكيف بشكل مدهش مع كل التبدلات المريعة في درجة الحرارة.
رابعا: وإذا وضع في حمام من الجراثيم ذات الذيافين الفظيعة التي تنهك الإنسان وتورثه المرض فإنه يَمُر بها، كما لو كان يأخذ حماما لطيفا، بدون أي مرض أو عطب، ولا يتأثر بدنه البتة.
خامسا: وأما تحمله لجرعة الإشعاع النووي فهو يصل إلى ثلاثمائة ضعف من الكمية السمية القاتلة من الإشعاع، تلك التي يقضي الإنسان بها نحبه، ويصبح بعدها رميما.
ويعود الفضل في مقاومته للأشعة النووية، إلى أن ما يدور في أحشائه ليس دما أحمر كالذي نملكه نحن بنو الإنسان، بل هو عصير (مصل) أصفر يقوم بدور أساسي في ترميم الخلايا المدمرة من الإشعاع النووي، ويبدو أن هذه الخاصية الدفاعية قد تشكلت عنده منذ فترة طويلة، فهو كائن يعيش على الأرض منذ حوالي خمسمائة مليون سنة.