جمع بين التدريب والتحكيم وكان أول لاعب كرة سلة مغربي يحترف بالخارج
قضاة الملاعب:حسن العلمي (حكم ورئيس لجنة الحكام)
حسن البصري
يتيم في باب «خيرية» عين الشق
في ربيع سنة 1957 فقد الطفل حسن العلمي والده، كان يبلغ من العمر ست سنوات، وهو على مشارف دخول المدرسة الابتدائية، لم تجد الأم الثكلى بدا من البحث عن ملاذ يساعدها على إتمام دراسة ابنها ويخفف عنها عناء نفقات التمدرس.
نصحها بعض الأهالي بإيداع ابنها في الجمعية الخيرية الإسلامية لعين الشق، وبفضل تدخلات مجموعة من المحسنين تم تسجيل حسن ضمن المرشحين لولوج المؤسسة الخيرية، وبعد أيام من الانتظار تم قبول طلب الالتحاق بالمؤسسة الخيرية، لكن استعصى على الطفل، الوافد الجديد، تحمل تبعات الوضع الجديد، لكنه سرعان ما سيتجاوز مرحلة الاستئناس ليصبح متحمسا لتغيير المناخ الأسري المتفكك بفضاء دار الأطفال لعين الشق، لاسيما أن والدته قررت الارتباط بزوج آخر.
ارتبطت دار الأطفال عين الشق في أذهان ساكنة الدار البيضاء خلال بداية الاستقلال بالصرامة، وظلت تنتج مئات الكفاءات في مختلف مناحي الحياة. لهذا كانت والدة حسن العلمي على حق حين بحثت عن محسنين يسهلون عملية إيواء ابنها في عهدة «المخزن» وضمان تمدرسه بأقل التكاليف.
وجد الوافد الجديد في فضاء دار الأطفال مجالا يوفر، إلى جانب الدراسة، فرصة للعب وممارسة أكثر من نوع رياضي، وبعد سنتين من التحاقه بهذا المرفق الذي يراهن على الرياضة كوسيلة للإدماج، انضم الطفل إلى كتاكيت فريق دار الأطفال لكرة السلة الذي كان يؤطره الأب الروحي للرياضة بالمؤسسة الخيرية أحمد بوهلال.
في حوار أجريته مع حسن العلمي قبل سنة عن رحيله، كشف لي عن أيامه الأولى في الميتم: «كان عمري عشر سنوات حين تم اختياري لألتحق بفريق الكتاكيت. انتابتني سعادة لا توصف وقررت أن أواظب على التداريب وأستمع بإمعان لتوجيهات الحاج بوهلال، الذي كان إلى جانب أطر وزارة الشبيبة والرياضة يسهرون على تأطيرنا رياضيا، وهذا الوضع الجديد مكنني من الخروج من المؤسسة رفقة الفريق لمواجهة فرق أخرى أغلبها من الأجانب، وفي كل خرجة أكتشف عالما جديدا وأكسر روتين دار الأطفال، لذا أجدني أنتظر نهاية كل أسبوع لألعب كرة السلة، حتى أنني صرفت النظر عن زيارة والدتي».
كرة السلة تعوض العلمي عقدة اليتم
لفت العلمي الأنظار بمهاراته العالية في كرة السلة، ونال خلال دوري انتقائي جائزة أحسن لاعب بفضل تسديداته الدقيقة ومراوغاته الساحرة، وهو ما مكنه من التدرج سريعا في سلم النجومية. ومما شجعه على رفع منسوب لياقته البدنية مشاركته في أكثر من تخصص رياضي داخل دار الأطفال، «كنت أمارس، إلى جانب كرة السلة، الكرة الطائرة وأيضا كرة القدم، حيث كنت حارس مرمى فريق الخيرية الذي كان يتطوع المرحوم العربي بن مبارك لتدريبه».
ارتقى حسن إلى الفريق الأول لدار الأطفال الذي كان يمارس ضمن بطولة القسم الممتاز، وأصبح إحدى دعاماته الأساسية بفضل قامته من جهة، وتقنياته العالية من جهة أخرى، كما نال تأشيرة الولوج إلى المنتخبات الصغرى ليصبح عميدا لمنتخب الأمل، وهو مجرد نزيل لا يملك سوى سريرا في المرقد ومساحة حب في نفوس زملائه بالمرفق الخيري، بسبب نبوغه الرياضي والفكري.
يذكر حسن واقعة طريفة خلال إحدى رحلاته مع المنتخب الوطني للأمل إلى العاصمة التونسية، ويتحدث عن وضعيته كلاعب ينتمي للمؤسسة الخيرية بين عناصر أغلبها ينتمي لأسر ميسورة، «في هذه الرحلة الرياضية كان اللاعبون يتناولون بين الفينة والأخرى وجبات تكميلية في مطاعم تونس، وخاصة فواكه البحر، وكنت أرفض تناول هذه الأطباق الشهية التي أعشقها، وأبرر رفضي بكوني لا أقبل تناول وجبة «بخوش» والحال أن جيبي لم يكن يتوفر على نقود تجعلني أستمتع كبقية اللاعبين بهذه الوجبة الرائعة».
كان أحمد بوهلال ولازال، أطال الله في عمره، الأب الحقيقي للرياضة الخيرية، ومؤسس فريق دار الأطفال البيضاوية لكرة السلة سنة 1961، أي بعد أربع سنوات من التحاق حسن بالمؤسسة الخيرية، ولأنه كان إطارا في وزارة الشباب والرياضة فقد استعان بعلاقاته مع القائمين على الشأن الرياضي من أجل تنشيط نزلاء المرفق الخيري لعين الشق بالرياضة والمخيمات الصيفية والأعمال المسرحية. تعلم العلمي من بوهلال فنيات كرة السلة وألحقه بالكشفية وعلمه قوانين التحكيم، فأصبح بوهلال المثل الأعلى للعلمي.
كان جمهور كرة السلة بالدار البيضاء يضبط مواعد نهاية الأسبوع على إيقاع مباريات فريق دار الأطفال البيضاوية لتشجيعه ومتابعة عروض نجوم انتفضوا ضد الفقر والخصاص وقدموا في ملاعب المؤسسة لوحات فنية جعلت من كرة السلة الوجبة الرابعة في المعيش اليومي للمؤسسة الخيرية.
يختلف فريق دار الرعاية الاجتماعية عن باقي الفرق الرسمية في فيض مواهب لاعبيه وانتمائهم للمؤسسة الخيرية، فقد كان الفريق نتاجا خالصا لمدرسة كرة السلة بدار الأطفال البيضاوية بعين الشق، وكانت جامعة كرة السلة تعفي الفريق من أداء واجب الانخراط، فيما كان المدرب يشتغل بشكل تطوعي.
ضمت المجموعة لاعبين موهوبين أغلبهم حملوا قميص المنتخب الوطني وانتقلوا لفرق وطنية وأوربية، وكان فريق دار الأطفال يتكون من خيرة لاعبي البطولة الوطنية، أمثال السماحي والشرقاوي ويسير والتادلي وصالح وقصيب والعلمي والغانمي وغيرهم من العناصر التي جعلت من «لاميك» ظاهرة السبعينات في الدار البيضاء على غرار الظاهرة الغيوانية.
شاءت الصدف أن يتألق حسن رفقة المنتخب الوطني للكبار، خلال معسكر في بلجيكا سنة 1971، وبالتحديد في إحدى المباريات التي جمعته بفريق بلجيكي من الدرجة الثانية يدعى كوتري برادو، وعلى الفور فاتحه المسؤولون البلجيكيون في موضوع احترافه، فرحب بالفكرة وقرر عرضها على المؤطر بوهلال وعلى مدير المؤسسة الخيرية بن شقرون الذي كان رياضيا وله مكانته في مجال التحكيم.
بعد مشاورات طويلة وافق بن شقرون وبوهلال على الترخيص للشاب العلمي بالانضمام إلى الفريق البلجيكي، كأول لاعب مغربي يحترف في الديار البلجيكية، وأول لاعب من دور الأطفال ينال شرف الانتماء لفريق أوربي.
في أول موسم بالاحتراف، قاد حسن الفريق البلجيكي إلى الصعود، مما جعل العديد من العروض تنهال عليه من أندية أخرى يراودها حلم الصعود، فانضم إلى نادي سان مكارينو الذي ارتقى بدوره إلى مصاف الكبار، لينهي مساره الاحترافي مع ناد آخر.
«عدت إلى المغرب لأن الحنين إلى دار الأطفال وإلى أصدقاء المرحلة شدني. في أول موسم وقعت للتبغ البيضاوي، وبعد موسم واحد عدت إلى دار الأطفال لأنضم إلى فريقي الأصلي كلاعب ومدرب في نفس الوقت، ثم عدت إلى التبغ كمدرب ومنه انتقلت إلى الوداد البيضاوي، ومع مرور الوقت تقلدت جميع المهام الرياضية من لاعب إلى مدرب فمسير ثم حكم».
لم يكن تاريخ هذا الفريق يسعى للألقاب، بل كان يضمن للمشجعين الحد الأدنى من الفرجة، إلى أن أصبح يلقب بفريق الأحلام، رغم عدم تتويجه بأي لقب، كل ما في جعبته لقب «كأس العرش» 1970، اللقب الوحيد الذي فاز به فريق «دار الأطفال البيضاوية-ذكور» مقابل خمسة ألقاب في البطولة، من نصيب إناث دار الأطفال البيضاوية، لكن فريق الذكور نال مرارا وصافة البطل واحترام خصومه لأنه فريق الخيرية الذي واجه فرقا مدعمة.
حكم على أنقاض فريق كان صرحا فهوى
في الفترة ما بين سنة 1984 وإلى غاية 1988، سيعرف الفريق حالة من التراجع، بعد رحيل نجوم الفريق كل إلى وجهته بحثا عن فرصة لتأمين مستقبلهم، حينها اختار العلمي التحكيم الذي مارسه بشكل تطوعي حين كان يقود مباريات زملائه في «الخيرية».
وجد العلمي من بوهلال كل التشجيع لدخول عالم التحكيم، بالنظر إلى مكانته ضمن هياكل الجامعة الملكية المغربية لكرة السلة، وقاده في بداية مشواره كحكم على مستوى عصبة الشاوية، انطلاقا من الفئات الصغرى وصولا إلى الكبار، ولأنه كان لاعبا دوليا فقد لقي خلال مساره التحكيمي كل الاحترام والتقدير من اللاعبين، كما سانده الدكتور حمودة كرئيس للجامعة الملكية المغربية لكرة السلة.
في هذه الفترة الزمنية انتقل العلمي من لاعب إلى مدرب ثم إلى حكم، وبعد اعتزاله الصفارة أقحمه بوهلال في لجنة التحكيم بالجامعة الملكية المغربية لكرة القدم التي كان يرأسها بناني سميرس الرئيس السابق للوداد البيضاوي.
كانت لجنة التحكيم بالجامعة الملكية لكرة السلة تحت رئاسة حكم أجنبي سابق يدعى بيرنابوه، وكانت زوجته مديرة اللجنة، بينما كان بوهلال نائبه إلى جانب العلمي. قدمت هذه اللجنة عملا كبيرا وساهمت في توسيع قاعدة التحكيم وتشبيبه وعلى امتداد 18 سنة أنجبت حكاما دوليين من الطراز الرفيع منهم حكام من أبناء المؤسسة الخيرية على غرار: الشرقاوي وأكميل والشليف وأشرف.
كان العلمي عنصرا نشيطا ضمن لجنة التحكيم وكان المساعد الأول لبوهلال لذا حين اقترب موعد الاعتزال، لم يجد عناء في إيجاد من يخلفه.
ساهم حسن العلمي من موقعه كرئيس للجنة التحكيم بالجامعة في تكوين مجموعة من الحكام، وبلغ رصيد المغرب من الحكام الدوليين في فترة من الفترات 36 حكما دوليا. ويرجع للعلمي الفضل في تألق الحكم الدولي عبد الإله الشليف ابن دار الأطفال عين الشق الذي نال الشارة الدولية وعمره لا يزيد عن 24 سنة، ولازال إلى اليوم يشغل مهام قيادية في الاتحاد الدولي لكرة السلة مقابل تهميشه على الصعيد الوطني.
حين يتحدث العلمي عن مآل الرياضة بهذه المؤسسة يطلق زفيرا من الأعماق، «للأسف نترحم اليوم على الرياضة في هذه الدار فقد كنا الأقوى على مستوى الرياضات الجماعية، خاصة كرة السلة، حيث فزنا بلقب كأس العرش وشاركنا في بطولة أوربا حيث واجهنا فريق أسي ميلان في عقر داره وأحرجناه أمام استغراب الحاضرين».
بعد اعتزاله ظل العلمي يحمل رقما قياسيا شخصيا حين سجل 57 نقطة في مباراة جمعت دار الأطفال البيضاوية بنظيرتها الصويرية، بينما تقول أدبيات الجامعة إن صاحب الرقم القياسي هو اللاعب عبيد الذي سجل 64 نقطة، لكن في زمن الثلاث نقط.
شاءت الأقدار أن يخطف الموت حكما كانت تدين له الصافرة بالولاء، وينصاع اللاعبون لقراراته، مات العلمي دون أن تنتبه الجامعة لرحيله، وكأنه لم يكن.