شوف تشوف

الرأي

جدل الإشاعات والحقائق (5)

بقلم: خالص جلبي

صديقي (عمر اليسوني) من مدينة القنيطرة (المغربية)، قال إن إصابات عام 1918 م في ما عرف بالجريب الإسباني خلفت 50 مليون جثة (وهي تسمية مغلوطة، لأنها بدأت من أمريكا وقتلت 600 ألف أمريكي)، مقابل إصابة ثلث الجنس البشري (كان التعداد يومها حوالي مليارين وليس 500 مليون إنسان)، وهذه الأرقام غير مؤكدة. وحسب كتاب الفيض (Spillover) وهو من سلسلة عالم المعرفة (رقم 415 و416)، كتبه (ديفيد كوامن) في جزأين والذي تحدث عن ذلك الوباء؛ أن أرقام الضحايا كانت في حدود خمسة ملايين وهي أكثر من كافية!
وهكذا تراوحت التقديرات كثيرا من بضعة ملايين إلى عشرات الملايين، بفعل عدم وجود طريقة إحصائية دقيقة للإصابات، ومنه ضرورة تأسيس علم الخرافة والجهل بتعبير الفيلسوف (إبراهيم البليهي)، الذي كتب كتابا كاملا بهذا العنوان!
وهو ما يذكرني أيضا بما كتبه المؤرخ والمفسر (ابن كثير) عن ضحايا بغداد على أيدي المغول، أنهم كانوا مائتي ألف ألف! فهو لم يكن يعرف رقم المليون في تعداد تلك الأيام؛ أي إن أرقام من قتلهم المغول من سكان بغداد كانوا مليونين من الأنام، وهو رقم مشكوك فيه ويجب التأكد منه؟ وهو ما ذكره أيضا ابن خلدون في مقدمته من ميل النفس إلى المبالغة في الأرقام والإحصائيات، ويذكر ستة أمثلة على منهجه النقدي حين يقول، فاعلم أن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالحاضر والذاهب بالشاهد، فلا يؤمن فيها الإنسان من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وهو ما وقع لكثير من أئمة النقل والتفسير. ويذكر الرجل أيضا بالمقابل، ستة أمثلة عن القواعد الست التي وضعها لتحري الخبر الصادق من الكاذب، وهو أن جيش موسى كان 600 ألف مقاتل. ويقول ـ أي ابن خلدون ـ إنه لا يعقل أن يكون جيش موسى بهذا التعداد، بسبب لوجستي بحت؛ فلا يعقل أن يقاتل جيش لا يعرف أوله ماذا يجري في آخره. ويتابع ـ أي ابن خلدون ـ فيقول إن ما نعرفه عن تعداد الجيوش لأيامنا لا يمكن أن تكون بهذه الأرقام، والسبب كما يقول ابن خلدون هو سهولة النطق والمبالغة من طرف الراوي، وصعوبة تتبع ذلك على الناقد.
وبالطبع فإن ابن خلدون قد يفاجأ بما يخلخل قاعدته لو كان أيام الحرب العالمية الثانية؛ حين كان هتلر يعد عشرة أضعاف جيش موسى بعملية (بارباروسا) بعدة جيوش من خمسة ملايين جندي! كان منه الجيش السادس بقيادة (فون باولوس) بـ600 ألف جندي، تلك التي أنكرها ابن خلدون، والسبب أن قدرة الاتصالات بين الجيوش تم وصلها وحل إشكالياتها، ففي أيام ابن خلدون ـ وهو صادق ـ أنه لا يعقل أن يقاتل جيش لا يعرف أوله ماذا يحدث في آخره. وأذكر من معركة غوغاميلا (أربيلا) التي خاضها الإسكندر ضد داريوس (333 قبل الميلاد)، أن جيشه لم يزد عن 47 ألف جندي، منهم سبعة آلاف من الخيالة؛ فهذه كانت حالة الجيوش أيام الإسكندر وابن خلدون، ولكن أيام معركة النورماندي، أو حملة نابليون على روسيا بـ600 ألف جندي، أو عملية بارباروسا التي خاضها هتلر بخمسة ملايين جندي فهي ممكنة.
والآن فهذا التقعيد للمفاهيم كله من أجل الانتباه إلى الإشاعات والأفكار التي تروج أيام الكورونا، ونحن نرى حالة الهلع في العالم، وفي هذا ينفعنا أيضا علم النفس في ما يعرف بالبرمجة اللغوية العصبية (NLP)، التي تقول عن اللغة إنها تكذب ثلاث مرات، وحين يقول أحدنا أي جملة فهي تحمل النقص والكذب والمبالغة تلقائيا، ومنه قام أرسطو بوضع قانون المقولات في عشر زوايا، مثالنا على ذلك حين نقول إن فلانا ضرب فلانا؛ فهذا يجب أن يحمل أكثر من هذه الجملة وبالتفصيل أهمها أين ضربه؟ وبأي أداة؟ وماذا نتج؟ ومتى حدث هذا؟وأي دافع؟ ولماذا؟ وكيف؟ إلى عشر زوايا مما اقترحها أرسطو، المعلم الأول.
وهذا المنطق مهم جدا للتأسيس العقلاني، وبناء العقل النقدي، في فهم ما يدور حولنا. وأنا شخصيا تأتيني يوميا أخبار معظمها كاذب أو ملفق أو مفبرك أو مزور أو مبالغ فيه، حتى أن الكاريكاتير هو المنظر نفسه مع تشويه أطرافه؛ فحين نرى منظر رجل سياسي نعرفه أنه هو هو، وأنه ليس هو، من كبر الأنف أو ضخامة الشفة وفلطحة الذقن أو خصلة شعر بيضاء في رأسه، كما تفعل جريدة ما وهي تحاول أن تسخر من وزير.
وصاحب مجلة «الحوادث» (سليم اللوزي) دفع حياته ثمنا لمثل هذا الكاركاتير، حين أظهر على صفحة الغلاف الرئيسي (حافظ الأسد) على نحو كاريكاتير بذقن طويلة وأنف مشوه، وتحته عبارة لماذا يكذب النظام؟ـ وإن كان صديقي الدكتور (معاذ الحفار) فسر خلفية القتل على نحو مختلف، بأن الرجل من خلال مقابلة مع مدير الاستخبارات الأمريكية، بدا عليه أنه يعلم أكثر من اللازم!ـ والرجل يعلم علم اليقين طبيعة النظام السوري وشراسته؛ فهو نظام حزبي عائلي شرس دموي مافيوزي مخابراتي من الدرجة الأولى، عائلي طائفي بغيض، استبدادي شمولي، أباد الناس بالغازات السامة وذهب إلى نبش القبور، وواصل قتل الإنسان والزمان والمكان، وخرب البيئة، وهدم العلم، ونسف بنية الأخلاق في محاولة تحويل كل إنسان إلى مخبر على أمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه، وأنهى المعنى الكريم والقيم في حياة الناس أن يعيشوا في ذل مقيم وقنوط لا يرتفع، يتعلم أبالسة الجحيم على يديه فنون السادية، ويستحي فرعون بكل الآيات أن يقترب من منصة هذا النظام الذي يذكر بقصة فرانكنشتاين، وما هي من الظالمين ببعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى