جدلية النص والواقع
بقلم: خالص جلبي
مع كتابة هذه الأسطر تتصاعد وتيرة العنف، سواء منه الديني أو العرقي، في أماكن متفرقة من العالم ومنها العالم العربي، فرحت أرصد هذه الظاهرة وأتعمق في تضاعيفها لعلي أن أقدح نورا في هذه الظلمات، وأضع يدي على جذر مشكلة العنف الإنساني. سوف أستخدم النص القرآني مع قراءة الواقع:
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتُقُبِل من أحدهما ولم يُتَقَبْل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين. (المائدة: الآية 27 – 32).
تحت أسطر هذه القصة المروية في القرآن يكمن مغزى فلسفي عميق لكيفية مواجهة المشاكل الخطيرة، والحلول لهذه المشاكل الإنسانية، أثناء احتدام الصراع البشري. دعنا نتأمل القصة كما جاءت في القرآن لمزيد من الفهم.
الملاحظة الأولى: القرآن يستخدم أساليب قريبة للفهم الإنساني، فهو يستخدم هنا القصة القصيرة وفي أمكنة أخرى القصة الطويلة كما هو الحال في سورة يوسف، وأحيانا المثل؛ وباستخدامه للقصة فإنه ينزل إلى الواقع وينتزع منه ما يريد، ونظرا لأن الصراع البشري له مسبباته ونتائجه التي تحكمه، لذا فإن النزول إلى (الواقع) لأخذ العينة منه، ثم أخذها إلى معمل التاريخ له ما يبرره تماما، بل يشكل الطريق السليم لمعرفة مصدر الصراعات.
(الواقع) أكبر من النصوص لأنه يشكل المصدر الذي يراه البشر جميعا، ولأن الواقع هو النص مجسدا، في حين أن النصوص تتعلق بالخلفية الثقافية التي يحملها البشر، والتي بموجبها يفهمون النصوص ويتعاملون بها ويختلفون؛ بل ويتنازعون؛ بل ويفتك بعضهم ببعض من أجل الخلافات في وجهات النظر (لأقتلنك) وهم يواجهون النصوص.
وما حرب الخليج إلا نموذج عن عجز النصوص عن حل المشاكل. حينما شكلت المؤتمرات الإسلامية في ساحتي الصراع المتنازعتين، واستخدمت النصوص لدعم موقف كل فريق (وكل حزب بما لديهم فرحون)، والذي حل المشكلة في النهاية هو طرف خارجي، وكان حلها ليس استنادا إلى النصوص ولا رجوعا إليها، بل صواريخ توماهوك الأمريكية؛ بل لماذا نذهب بعيدا لنتذكر معركة (صفين) القديمة، حيث رفعت المصاحف على رؤوس الرماح دليلا على الرغبة في التحاكم إلى النصوص، وحلت بدون تدخل (فريق خارجي) ولم يكن الطرف الذي طلب التحاكم إلى النصوص بأنزه الطرفين ولا أتقاهما، ويعلمنا التاريخ أن التحاكم القديم إلى النصوص لم يحل المشكلة إن لم يكن قد زادها تعقيدا. وفي معركة صفين الثانية (العراقية – الإيرانية) تم توظيف الدين سياسيا مرة أخرى، حيث اعتبرت من قبل العراق أنها معركة القادسية، في الوقت الذي اعتبرت فيه من طرف الإيرانيين أنها معركة (كربلاء) ومات في معركة كربلاء رقم 5 هذه قرابة 65000 إنسان منهم 45000 إيراني و20000 عراقي، أي ما يعادل عدد سكان مدينة متوسطة الحجم، كما مات مئات الألوف من الإيرانيين وهم يقاتلون (الطاغوت يزيد). وسوف تتكرر معارك صفين أخرى في أماكن أخرى، طالما كنا سندفع ثمن نعال الجمال، فما هي قصة النعال هذه؟
(يروى أن وصيا على غلام كان يعرض حساباته السنوية ويذكر فيها بعض المصاريف في شراء نعال للجمال! ولما تعجب الغلام في إحدى السنوات قائلا: «ولكن يا عماه ما أعرفه أن الجمال لا يوضع لها نعال». قال الوصي: «الآن بدأت تفهم وبإمكانك التصرف في ثروتك الآن فلقد رشدت»). وسوف يدفع العرب ثمن نعال الجمال من (الخردة الأمريكية) حتى يرشدوا!
وفي الواقع فإن تجسيد النص على الأرض هو (الواقع)، أي أن (النص والواقع) يشكلان معادلة كما هو الحال في علاقة الطاقة بالمادة، إلا أن (المصدر) هو دوما الواقع، في حين أن النص هو محاولة تعبير عن لغة الواقع، وفي هذه النقطة يحصل الخلاف البشري، أي في (تفسير الواقع). وإلا فإن جميع البشر يرون الشمس والقمر والسحاب، كما يرون تساقط المياه وتبخر الماء وذوبان الشمع وانفجار البارود وتمدد المعادن، كما يرون الخلية ونمو الشجر وولادة الأشياء وظاهرة الموت.
وهذه النقطة هي رمز الإنسان من جهة، كما هي رمز عذابه ومعاناته (لقد خلقنا الإنسان في كبد). جدلية الإنسان إذاً هي في كونه يختلف مع أخيه الإنسان في تفسير الواقع، إلا أن صورة الاختلاف قد تكون رحمة ومصدر نمو واقتراب متواصل من الحقيقة النسبية، في الوقت نفسه الذي قد تتحول إلى مصدر صراع ضار، يصعد إلى مستوى سفك الدماء وتصفية الآخر، كما هي في القصة التي بين أيدينا.
كذلك نرى في الحديث قصة تمشي في هذا الاتجاه نفسه، أي في إبراز أهمية الواقع وأنه مصدر الفهم. جاء هذا في (حديث ابن لبيد)، حينما ذكر رسول الله (ص) أمرا فقال: «وذلك في زمان ذهاب العلم»، فلما سأله الصحابي: «وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن. وسنقرئ أبناءنا القرآن، وأبناؤنا سيقرئون أبناءهم القرآن؟»، كان جواب الرسول (ص): «أوليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء».
لم يقل له قال الله تعالى، كما أنه لم يقل: «أتكذبني وأنا رسول الله؟»، بل أخذ بيده إلى الواقع فمنه الدليل.