شوف تشوف

الرأي

جدلية النص والتاريخ والفكر (1/2)

أرسل لي السيد كمال ياملكي من فانكوفر وباللغة الإنجليزية جدلا يجب تسجيله، فالرجل صرح عن نفسه أنه لا يؤمن بدين وعقيدة وحين قرأ بعضا مما أكتب راقته أفكاري فظن أن كهف الحقيقة عندي والحقيقة وصية أوصى بها الرب، ولكن الوصول إليها ليس طريقا ملكيا معبدا بل مليء بالوسواس الخناس. قال الرجل في مراسلة بلغة ريتشارد قلب الأسد مايلي: إلى صديقي الدكتور جلبي المحترم وآمل أن لا يغضب لأنني أقدره وأحبه:
To my dear friend Dr. Jalabi. With respect hopping not to make him angry of me because I highly love and respect him.  Kamal Yamolky
مع الشكر والتقدير سيدي وسيدتي. هل لكم أيها الأكرمين أن تفسروا من خلال إيمانكم هذا العميق وبعد نظركم الديني ما تفسير ما يلي: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم… سورة النساء 4:34
هل تلك الكلمة الجريمة التي أحطت من قيمة سيدتي المبجلة من ضمن المقدسات التي ترددونها. حين يكون الكلام سخيفا يا سيدتي فلا شك بأنه أكثرمن قرقعات؟؟ مع خالص التقدير
كمال ياملكي
وكان جوابي التالي:
الفاضل كمال ولا كمال إلا لله الكامل الأول الآخر الظاهر الباطن وهو بكل شيء عليم.
إنها القصة القديمة الجديدة. وليست هذه الآية الوحيدة.
ولقد كتب الدمنهوري كتابا كاملا في أن القرآن خلط وخبط وخرابيط وقول شاعر مأفون.
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. ولو كان القرآن أساطير الأولين لما صمد كل هذه القرون فما زال منجم كنوز للاغتراف ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أو يورانيوم مشع فمازال يتحلل بعناصره إلى مليارات السنوات في نصف حياة فيزيائية.
وقصة القوامة سهل حلها، فالألمانية التي تنفق على زوجها الكردي الهربان، من سفوح كركوك ورميلان، تصبح القوامة لها بما أنفقت.
والمشكلة في التشريعات وقبلها تصورات وعبادات. والقرآن ثلاث: تصورات وعبادات وتشريعات. تحكم الأولى الفلسفة وهي إلى نهاية العالم، والثانية الاتباع لأنها طقوس يجب أن تدار على أي نحو، فالزرادشتي يوقد النيران، والسيخي يلف رأسه بخرقة إلى يوم الديان، والشيعي يضرب نفسه بالساطور والسلسال، والسني يطوف حول حجر أسود، والبابا الكاثوليكي يلبس قلنسوة حمراء طولها متر، وخروتشوف يعتلي المنصة الحمراء يهدد بلهجة حمراء العالم بسلاح أحمر، يزعم أن المادية الديالكتيكية تفسر نهيق الحمير وحركة الذرة ودورة القمر ونسغ النبات.
فكانت طقوس الديانات مختلفة منها ما صمد ومنهم أنبياء كذابون افترسهم الزمن فلا يقيم لهم وزنا.
والثالثة يحكمها العدل والعدل كم قابل للتطور. وفي تشريعات حامورابي التي زعم أنها من الله، كان يقطع لسان الطبيب المخطئ، واليوم يمكن السيطرة على الاختلاطات الطبية في بعضها، فهذه ميزة الطب الجيد أن تجري عملية ناجحة وتكتشف المضاعفات في وقتها وتسيطر عليها.
ومن الرياض حاول عبد الحميد أبو سليمان حل هذه الإشكالية؛ فكتب في عشرين صفحة، يلعب لعبة الشحرور السابقة في كتابه الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، أنه يمكن أن يستخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء، وهكذا قال إن الضرب هو العزب، والعزب هو ترك البيت، فيكون معالجة النشوز الزوجي، هجر الفراش، ثم هجر البيت؟
مما دفعني أن أكتب تعليقا على البحث أرسلته إلى مجلة الفيصل التي نشرت بحثه، فكان جزائي أن حرموا نشر أي مقال لاحق لي، وكانت مقالاتي فصلية على أضعف الأمور، بين خضرة ربيع واحمرار خريف، فلم يبق صبارة شتاء ولا حمارة قيظ .
وإليك خلاصة البحث، وأرجو أن تصبر على قراءته، وهو المختصر بين يديك، وسوف أسعى لنشر كامل هذا البحث في إيلاف، التي تأتيني التعليقات فيها صادقة معبرة عن الوسط العربي المحبط، الذي يحسن التسفيه والشتم والتصفيق والصفير. وهي طريقة جيدة لكشف معايير الكيمياء بسبر الوسط على طريقة العلماء بالصبر.
على مذهب أهل الجاهلية وما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية..
وفي بحث من 14 صفحة حاول كاتب إسلامي أن يفك إشكالية كلمة (فاضربوهن) ليصل في النهاية إلى أن كلمة فاضربوهن لا تعني فاضربوهن. وأن كلمة (الضرب) تعني (المفارقة والترك والاعتزال). وهي نفس الإشكالية التي وقف حيالها المفسرون حيارى في تصور (امرأة) تمارس (السياحة)؟ فالآية تقول أن هناك نماذج متميزة للنساء المؤمنات بمجموعة سداسية من الصفات تدخل فيها (السياحة). إلا أن المفسر وتحت ضغط ثقافة لا ترحم رأى أنه لابد من الالتفاف حول النص، فقال إن كلمة (سياحة) للمرأة لا تعني سياحة بل تعني (الصوم). وهذا القلب للمعنى من اللفظ يذكر بقصة الملا الكردي مع تلاميذه. فعندما كان يقرأ نصا باللغة العربية يحاول ترجمته لتلاميذه بالكردية كان النص يقول: «أن الفأرة إذا سقطت في السمن فخرجت (حية) يبقى السمن حلالاً» وهنا أشكلت كلمة (حية) على الملا الكردي كما أشكلت كلمة (فاضربوهن) على كاتبنا، فترجمها إلى (ثعبان)؟!. ارتاع أحد الطلبة من هذا الانقلاب المفاجئ للفئران لتصبح ثعابين. فتجرأ وسأل: أيها الملا كيف خرجت ثعبانا وكانت فأرة؟ قال الملا منفعلاً: اسكت أيها الفاسق إنها قدرة القادر.
والإشكالية السابقة في توليد (المعاني) من الألفاظ تعرض لها الغزالي قديماً في كتابه (المستصفى من أصول الفقه) واعتبر أن الذي يولد المعاني من الألفاظ يشبه من يريد الذهاب إلى الكعبة فيتوجه إلى بلاد الأسكيمو. وهي حكمة يعرفها (النحّالون) فعندما يضعون الأحجار والعلامات المختلفة على الخلايا حسب إصابتها ثم تكثر العلامات وتختلط فتربك وتضلل، عندها يعمد النحال إلى إزالة كل العلامات والعودة للواقع. فالواقع يحمل كل الحقيقة. والعلامات هنا لم تعد مفيدة بل مشوشة. وكذلك اللغة فهي معلومات مرت من الواقع إلى الدماغ ثم عملت عليها اللغة فتعرضت للتشويش ثلاث مرات: بالتعميم والحذف والتشويه كما اهتدى إلى ذلك علم البرمجة العصبية اللغوية(NLP). فالمعاني شمس للحقيقة تشع. واللفظة أو الكلمة هي قمر يعكس المعنى. والكلمات نحن من يشحنها بالمعنى. وكلمة غائط لا تعني برازا بل المنخفض من الأرض. والوضوء لا يعني غسيلا محددا بل الطهارة. ولكن التاريخ عمد إلى الكلمات فحشاها بمفاهيم شرعية فأصبح الناس يفهمونها ليس على أصلها بل بما ضغط في أحشائها من معنى. فنسي الأصل وثبت الفرع. بكلمة ثانية المعنى جسد يتلفع رداءً من الألفاظ. وكما نبدل ثيابنا ولا تتبدل حقيقتنا كذلك العلاقة بين الحقائق والألفاظ.
وفي كتاب محمد شحرور عن القرآن نرى نفس منهجية (توليد المعاني من الألفاظ) ويمكن بهذه الطريقة أن نمارس السحر الأسود فنخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء. وهكذا أصبحت كلمة (ولا يضربن بأرجلهن) تعني (الستربتيز) أي (التعري المتدرج). وكلمة (ضرب) التي تعرض لها الكاتب حاول أن يفكها بمفتاح اللغة وهو يشبه الدخول إلى مغارة علي بابا والأربعين حرامي. وفي حرب الخليج الثانية حاول الفقهاء المجتمعون في مكة وبغداد أن يوظفوا الحقيقة كل إلى جانبه مدعومة بكل الحجج العقلية والنقلية. والذي حل النزاع كانت أمريكا بدون نصوص ولم يحلها الفقهاء بكل نصوصهم.
إن كلمة (اضربوهن) لا يمكن حلها ولا غيرها بهذا المنهج أي توليد المعاني من الألفاظ. والسؤال الآن كيف يمكن حل هذه الإشكالية؟
هناك من ذهب مثل (النيهوم) أن الكلمة بالأصل تمت كتابتها خطأ مع مشكلة تنقيط القرآن فهي ليست (اضربوهن) بل (اعزبوهن). ولكن هذا يفتح ثغرة على بلاد أليس في بلاد العجائب.
وهناك من يرى عكس ما ذكرنا فلو صح لأحد أن يضرب أحدا لكان للمرأة أن تضرب الرجل لنعومتها وعدم أذاها بالضرب، أما ضربة الرجل فقد تكون قاتلة وموسى وكز الرجل فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان.
وهناك من رأى أن (الضرب) أحيانا لذيذ في الممارسة الجنسية وما يرافقه من المص والعض، وهو من بقايا إنسان الغابة الذي كان يخطف المرأة ويستولي عليها ويمارس معها الجنس مترافقاً بالعنف من عض وضرب وسواه. وأحياناً لا تتمتع بعض النساء المصابات بالانفعالات المازوخية ولا تصل إلى ذروة النشوة الجنسية بدون هياج جنسي من الضرب.
مع هذا فإن هذا الشرح الطبي النفسي لا يقترب من حل إشكالية كلمة (فاضربوهن) فهل يمكن الدخول بمفتاح آخر لحل هذه الإشكالية؟
والجواب قد يقنع أقلية ولكنه قد لا يرضي الكثيرين وهو أن القرآن يحوي ثلاث قطاعات: من العقائد والعبادات والتشريعات وأقلها التشريعات ولا تتجاوز 200 آية حسب إحصائيات الشيخ الدهلوي. مقابل 200 مشهد ليوم القيامة أحصاها سيد قطب في كتابه (مشاهد القيامة في القرآن).
إن (التشريع) مرتبط (بالعدل)، والعدل كم تراكمي لا يعرف التوقف أو الحدود وكما قال (ابن قيم الجوزية) فحيث العدل فثم شرع الله. وكتب (ابن رشد) في محاولة لربط (الحكمة) و(الحكم) فوضع (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال). وبذلك استوت الشريعة على أرجل من المنطق. ومنذ أيام حمورابي مشت رحلة التشريع في حركة تصحيح وإضافة وحذف بدون توقف ووصل العالم حاليا إلى إنجازات مذهلة في (كم) العدل. وألغت أوربا حكم الإعدام فاستفاد منه أوجلان الزعيم الكردي، فقد كان شرطا لدراسة طلب تركيا للانضمام للوحدة الأوربية. فكان أنفع من كل مظاهرات الأكراد أن ينجو من الشنق بعد أن لاح حبل الإعدام فتدلي فكان قاب قوسين أو أدنى.
والإسلام غير حريص على القتل من أجل القتل بل شرع القتل والضرب في وقت ما تحقيقا للعدل وهو مرتبط بتطور التشريع. وهو يشبه عمل المطافئ ومراكز الدفاع المدني للطوارئ. ووصف عمر (ر) المرأة في وقته على صورة ينقلها لنا (عبد الحليم أبو شقة) في موسوعته القيمة عن (تحرير المرأة في عصر الرسالة): «لم نكن نعد النساء شيئا فإذا أراد أحدنا قضاء حاجته منها شدها من رجلها فقضى حاجته وتركها». ولا يمكن تصور هذا الأشياء ما لم نرجع في الزمن فتنقلب أفكارنا ومشاعرنا لأنها حصيلة تفاعلات العصر.
وما يسمى الديموقراطية هي إنجاز بشري عصري وهو كم يتطور بآلية الحذف والإضافة من حيث التمثيل الصحيح والمشاركة في القرار. وأمريكا وأوربا اليوم فيها قدر من الديمقراطية ولكنها ليست النموذج المثالي. ولكنها بالنسبة للعالم العربي مثل السيد والعبد أينما توجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. فلا يستويان مثلا.
ومحاولة إسقاط ذلك على الشورى لا يخدم الديموقراطية ولا الشورى. فهو اختزال وضغط للمفهوم ووضعه في غير مكانه، فالشورى لا تعني الديموقراطية. ونحن لم نشم ديموقراطية أو شورى في كل تاريخنا. والشورى كانت يومها قفزة نوعية بالجنس البشري لولا الاغتيال الأموي. وهكذا فكلمة (اضربوهن) تشبه ملك اليمين في القرآن وسيلحق بهما القتال لأن هناك علاقة جدلية تاريخية بين العبودية والحرب. فالحرب هي التي أفرزت الرق، وعندما ينتهي الرق تنتهي الحرب. وكما يقول توينبي أن الرق كان سينتهي تلقائياً بدون قرار أمريكي وحرب أهلية بتطور الآلة. فالآلة الصناعية كانت ستلغي الآلة العضلية تلقائياً. وبين العبودية والحرب تأتي مشكلة ضرب المرأة لأنها لون من العنف الحربي.
وعندما نقرأ النص القرآني من سورة المؤمنون عن ملك اليمين نعرف ـ إذا حدقنا جيدا في النص والتاريخ ـ أنه نص ألغاه التاريخ ولم يعد للآية سوى قيمة تاريخية.
ناقشت رجلاً يوماً في مونتريال حول هذا الموضوع فقال: لا سوف يرجع التاريخ مرة أخرى فيصبح فيه رق حتى نطبق النص ويرجع حكم ملك اليمين فنتمتع بما ملكت أيماننا من فتياتنا المؤمنات. قلت له: ولكن هذا الانقلاب ضد محاور التاريخ التقدمي. قال: تطبيق النص أهم من التاريخ.
وفي يوم سئل مجنون عن نهر لماذا وضع الجسر فوقه؟ أجاب: حتى يمر النهر من تحته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى