جدلية الغرائز والعواطف والعقل
بقلم: الدكتور خالص جلبي
في مطلع القرن الأول الميلادي دفع أحد الأنبياء العبرانيين حياته ثمنا لرقصة أدتها (سالومي)، فحاكم فلسطين في ذلك الوقت (هيرودس) وقع في فضيحة جنسية، حينما أصر على الاقتران من (هيروديا)، زوجة أخيه (فيليبس)، التي وقع تحت سحر جاذبيتها، على الرغم من تحريم الشريعة المعمول بها في فلسطين في تلك الأيام، ولكن الفضيحة الأفظع كانت مع ابنتها هذه المرة؛ فحينما وقعت عيناه على الفتاة المراهقة التي تضج بالأنوثة انساق خلف شبقه، فأراد الوصول إليها بأي ثمن وبعلم أمها، ولكن لكل سلعة ثمن، وكان الثمن هذه المرة رأس نبي.
كانت فلسطين يومها تئن من دفع الضرائب لخزانة روما، وكان التوتر يسود المجتمع اليهودي، بين غليان شعبي ومؤامرات اغتيال وشعور بالاحتلال من الجند الوثنيين الرومان. ويروي التاريخ أن هيرودس تعرض لمحاولة اغتيال من مجموعة من المتطرفين، رأوا أن أفضل وأسرع وسيلة للتغيير الاجتماعي هي بالتقرب إلى الله بدمه!
في هذه الظروف المتوترة واعتراضات النبي على المخالفات الأخلاقية، تم اعتقاله وإيداعه السجن. وتنقل الأحداث التاريخية أن هيرودس غلبه السكر في إحدى حفلاته الماجنة، وإذ ضاع رشده بين ضباب الشهوة والفتاة شبه العارية ترقص بين يديه، قام وحلف رمزا لإعجابه بالرقصة أن يعطيها كل ما تريده، فطلبت رأس النبي السجين فاغتم الملك، ولكن من أجل القسم والمتكئين معه أمر أن تعطى ما طلبت؛ فأرسل وقطع رأس النبي في السجن؛ فأحضر رأسه على طبق ودفع إلى الصبية فجاءت به إلى أمها.
أي سر عجيب داخل دماغنا؟ وأي جدلية محيرة بين الغرائز والعقل؟ وأي صراع لا يقف بين الشهوات والعقل؟ وما هذا المرجل المتفجر في كياننا الذي وصفه الحديث الشريف «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة». إننا حقل مزيج نادر ومعقد ومحير، وقصة النبي نموذج لهذا اللون من التناقض، يضاف إليه موكب المنافقين المتحلقين حول الحاكم، فمأساة الحاكم في العادة مزدوجة بين حلقتين محكمتين من المتملقين أو المتربصين وفقد الصادقين الناصحين.
في صيف عام 1939 م يقول الفيزيائي الألماني (فيرنر هايزنبرغ) إنه رأى سحب الحرب تيمم شطر ألمانيا، قبل وقوعها بأشهر، ففعل ما يقوم به راكب السفينة عندما تبدأ العاصفة تطوق مصير السفينة، من شد الأحزمة وترتيب الحقائب، فبحث عن مكان لعائلته في جبال بافاريا يكون منطقة أمان لهم، عندما (تهدم المدن) الألمانية ولا يبقى حجر على حجر.
والأمر الثاني كان زيارة توديعية لأصدقائه في المجال العلمي، قبل أن يفرق بينهم الموت فمنجل الحرب قد شُرع، فقام برحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الزيارة التي فاجأ بها عالم الذرة الإيطالي (إنريكو فيرمي) صعق من موقف العالم الألماني (هايزنبرغ)، عندما صرح له بتوقعه للحرب العالمية قريبا. سأله فيرمي: «من سينتصر في الحرب يا ترى؟»، أجاب فيرنر هايزنبرغ بهدوء: «الحلفاء وسوف تخسر ألمانيا الحرب!»، فيرمي: «وكيف بنيت حكمك هذا؟»
هايزنبرغ: «الحرب اليوم تحسمها التكنولوجيا، وهتلر يعرف ذلك تماما، وأرجو أن يكون قد استوعب هذه الحقيقة! ولكن يا عزيزي فيرمي متى كانت الحرب عقلانية؟».
فغر فيرمي فاهه من الدهشة وهو يحدق في العالم الألماني، الذي يخترق حجب المستقبل ويتوقع هزيمة بلده ببرودة علمية، وأردف سائلا: «وماذا ستفعل الآن هل ستعود إلى ألمانيا، أم ستبقى هنا؟»، جواب هايزنبرغ كان مزلزلا: «سأعود إلى ألمانيا حتى أبني بلدي بعد الحرب وأنشئ مجموعة من الشبان العلماء!». وحاول فيرمي ثنيه عن عزمه عدم البقاء في الولايات المتحدة، بلد الحرية والإمكانيات واللجوء السياسي من كل أنواع الاضطهاد والضيق الأوروبي والفاشية والتعصب العرقي. جواب هايزنبرغ حمل الكثير من عبرة الفهم الاجتماعي الإنساني: إن الإنسان في فترة حياته الأولى يشكله المجتمع ويكون عقليته، ويصبح الإنسان كأفضل ما يكون تأثرا وتأثيرا في هذا الحيز؛ فإذا تجاوز هذه المرحلة ضاعت منه هذه الفرصة، ولا يعرف مرارة الغربة إلا من يعانيها، ومن يخسر وطنه يخسر كل شيء، كما يقول المثل.
قال هايزنبرغ: «لقد ولد كل منا في بيئة محددة وله حيز لغوي وفكري محدد، وإذا لم يحل نفسه مبكرا من هذه البيئة، فسوف يترعرع كأحسن ما يكون في هذا الحيز، وسيمكنه التأثير فيه كأحسن ما يكون».
فهذا نموذج ثان على أن الإنسان لا يتصرف بعقلانية في أخطر الأمور على الإطلاق، التي هي الحرب. وانطلق العسكري (فيكتور فيرنر) في كتابه عن «الخوف الكبير» المحيط بالجنس البشري من احتمال حرب عالمية ثالثة، فالحرب الباردة أغلقت ملفها فضلا عن الساخنة، ولكن هذا حصل فقط في مستوى شريحة الطبقة الأولى في العالم، التي تملك العلم والثروة والتكنولوجيا والقوة العسكرية، أو المعروفة بالدول الصناعية السبع التي تقود دفة العالم حاليا، وبدافع الخوف وليس من خلال التأصيل الأخلاقي. بمعنى أن الضغوط العلمية لوحدها هي التي دفعت العالم إلى دخول عتبة السلم، ولكن المخاوف لن تطوق برمتها إلا في حالة واحدة، كما دعا إلى ذلك المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي) في كتابه «الإنسانية من أين وإلى أين»، في مرافعة عن الضرورة الحيوية والإنقاذية للجنس البشري في بناء دولة عالمية، تنهي وإلى الأبد مشكلة الجوع والحرب على سطح الكوكب الأرضي.
إن الإنسان في فترة حياته الأولى يشكله المجتمع ويكون عقليته، ويصبح الإنسان كأفضل ما يكون تأثرا وتأثيرا في هذا الحيز؛ فإذا تجاوز هذه المرحلة ضاعت منه هذه الفرصة، ولا يعرف مرارة الغربة إلا من يعانيها، ومن يخسر وطنه يخسر كل شيء، كما يقول المثل.