جدلية العنف واللاعنف من منظور قرآني (4)
بقلم: خالص جلبي
يقول الوردي إن النصوص لم تحل يوما مشكلة، وحين التناطح يأتي الجميع بكل الأدلة العقلية والنقلية على صحة مذهبهم، وهو ما فعلته الدول الإسلامية في حرب الخليج الثانية، حين انعقد مؤتمران في بغداد ومكة، كل يقول إنه على حق وخصمه الخاطئ الشرير، حتى حلت أمريكا المشكلة بصواريخ البلطة ودبابات الأبرامز وطائرات الأباتشي، حلتها بدون مؤتمرات إسلامية وبدون مصحف وحديث وناسخ ومنسوخ. وهو الشيء الذي يجب فهمه تحت فكرة (البنيوية في القرآن)، أو التراكب الموضوعي، أو (المنطق الداخلي للقرآن). فآيات القرآن مثل نجوم السماء متناثرة نزلت على مكث، حسب المناسبات والأوضاع النفسية، ولا تبوح بأسرارها إلا من عاش هذه الظروف النفسية، كما حدث معي في سجن الشيخ حسن بدمشق حينما قرأت الآية «أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون»، فكأنها نزلت علي يومها وأعطتني من الهدوء الشيء الكثير، ولا يوجد في نهاية القرآن فهرس لموضوعاته. ولذا يجب أن نفعل كما فعل (تيكي براهي) و(يوهان كبلر)، حينما نظرا في النجوم فخرجا بنظام خاص ومنطق خاص في عالم النجوم، وكذلك آيات القرآن المنجمة. وبالمقابل فقد جاءتني رسالة أخرى بالاتجاه المعاكس تماما من رجل فاضل هو (م. ص)، الذي يقول إننا لا نوافقك في ما تذهب إليه في مذهب اللاعنف، فلم يفهم رسالتي تماما، ولم يستوعب رسالتي في مئات المقالات التي كتبتها تماما؛ فالرجل يذهب في تفسير صراعي ولدي آدم إلى تفسير جديد، يقول فيه إن الذي قُتِل (بالضم) كان سيدافع عن نفسه، كما جاء في قصة ولدي آدم التي أشرنا إليها أن هناك مذهبين: من يؤمن بالقتل سبيلا لحل المشاكل، ومن لا يهدد ولا يخاف من التهديد ويستعد للموت من طرف واحد دون مد اليد بالأذى للآخر.
قال الأخ إن القتل كان غيلة، وإن ابن آدم الذي أعلن موقفه أنه لن يقتل ولو بسط الآخر له اليد كان كاذبا مدعيا متظاهرا، فلو شعر بأن أخاه توجه إليه ليقتله لمد يده إليه بالقتل، وهذا تكذيب للقرآن والنبي والصالحين ومبدأ الفلاسفة وطريقة الأنبياء في التغيير. وقتل لكل الحكمة الموجودة في الآيات من سورة المائدة، والتي ختمها القرآن بقوله: «من أجل ذلك»، أي إن القصة سيقت لأخذ العبرة، وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون. ومما جاء في أحاديث الفتنة التي لم يطلع عليها الأخ، إشارة واضحة إلى مذهب ابن آدم في عدم الدفاع عن النفس، وهي عشرات الأحاديث المغيبة في تراث تشرب بالدم، بأشد من بني إسرائيل الذين أشربوا في قلوبهم العجل.
قال الأخ: «ولا نتخيل أن قابيل عندما جاء لتنفيذ جريمته، أن أخاه قد وقف أمامه مبتسما محبا وهو يراه يرفع الفأس ليهوي بها على رأسه، بل يغلب الظن أن القتل كان غيلة، وليصحح لنا الدكتور إن كانت لديه معلومات أفضل».
ولا أعرف كيف وصل إلى هذا الفهم المنكوس على رأسه؟ وهذا الاختلاط عند الكاتب المذكور جاء من فكرة (الدفاع عن النفس)، ونسي الحديث الذي يقول إن القاتل والمقتول في النار، لأنهما انطلقا من القاعدة النفسية نفسها «إنه كان حريصا على قتل صاحبه». وهذا الاختلاط في فكرة الدفاع عن النفس منشأه أن الصراع البشري ينفجر عند هذا المنعطف تماما في تصور كل واحد أنه يدافع عن نفسه. فالعمل مبرر مشرعن، ولكن من المدافع ومن المهاجم؟ لقد قالت إيران والعراق الكلمة ذاتها في الحرب العقيم التي لم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. وكل الحروب نشأت تقريبا بالحجة نفسها.
والفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) يقول: «إن كل وزارات العالم المخصصة للقتل والقتال اسمها (وزارة الدفاع) وهي مخصصة للهجوم، فلم نسمع عن دولة سمت وزارة الحربية عندها (وزارة الهجوم). ويقول نيتشه إن هذا العنوان يحمل النية السيئة للآخرين أنهم سيهجمون فيجب أن يدافعوا. والحروب الأهلية تنشب تحت ضغط هذا الشعور، علي قتله قبل أن يقتلني، ولأتغذى به قبل أن يتعشى بي. ولكن لو سيطرت فكرة مغايرة على الناس، فقال كل واحد: «لن أقتل ولو مد يده بالقتل» لانطفأت الحروب، ولكن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين. وهنا تأتي معنى الصلاة، أي دور الثقافة في تحرير الإنسان من علاقات القوة، وهو لب التوحيد. وفكرة الدفاع عن النفس سوف نحاول أيضا تفكيكها، أثناء بحثنا عن مشكلة العنف واللاعنف في القرآن. والحديث الذي يتحدث عن الدفاع عن النفس في وجه لص، هو غير الحديث الذي يتحدث عن عدم الدفاع عن النفس تجاه الدولة، فالعمل الفردي الشخصي غير العمل الاجتماعي السياسي، وحينما شجع الحديث المؤمن أن يعرف ركوب الخيل والسباحة والرماية، وأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، فكله يصب في خانة مختلفة عن التغيير الاجتماعي السياسي.