جدلية العنف واللاعنف من منظور قرآني (3)
بقلم: خالص جلبي
يقول عالم الاجتماع العراقي (الوردي) إن هذا لم يوجد بين الدول، فالدولة تملك الأفراد، ولكن لا يوجد دولة عليا تملك الدول. وهنا وفي هذه النقطة تنشب الحروب وصراعات الدول.
والدولة بوظيفتها الأساسية من (توفير الأمن) للأفراد تجعل الحياة متحملة، وأي نزاع ينشب بين الأفراد تتدخل الدولة ولو بالقوة المسلحة العارية فتفضه، ولكن لا توجد مثل هذه القوة بين الدول، فاستمرت الحرب بين الدول حتى اليوم، وأي مراقبة للصراع البشري في ظاهرة الحرب تتبدى هذه الظاهرة على شكل واضح.
وجمعية الأمم المتحدة وما شابهها هي محاولات متواضعة لإنشاء مثل هذه القوة العالمية التي تفك النزاعات بين دول المعمور، ولكن لم يتحقق هذا حتى الآن، وأعظم مرض أصيبت به البشرية هو ولادة مجلس الأمن المشؤوم، الذي أعاق ولادة العدل حتى اليوم، وربما وقد تكون الوحدة الأوربية نواة مثل هذا المشروع التاريخي.
وكان بالإمكان لأمريكا أن تقوم بهذا الدور، ولكنها قوة استعمارية تبغي الربح والهيمنة، وليس عندها روح العدالة والرسالة، ولذا فهي مكروهة من معظم أهل الأرض، وهو قدر كل قوة استعمارية تهدف إلى الهيمنة على امتداد التاريخ.
ومع سيطرة الدولة على الأفراد لحل النزاعات داخل مربع الدولة الواحدة، نشأ تلقائيا مرضان خطيران، الحرب مع الدول المجاورة، والطغيان الداخلي.
ومن أجل هذين المرضين بعث الأنبياء: التحرر من الطغيان الداخلي، ونشر السلام بين الأنام. وبهذه الطريقة نفهم معنى مجيء الأنبياء في التاريخ، وطريقتهم في التغيير السياسي القائم على فهم عميق للإنسان: أن أفضل ما يؤخذ من الإنسان هو بالإقناع والإيمان، وليس بالكراهية والإكراه.
وإذا كانت هذه رسالة الأنبياء جميعا، فكيف نفهم نصوصا من القرآن تحض على القتل كما جاء في سورة الفتح عن الأعراب، (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم شديد تقاتلونهم أو يسلمون؟)، أو الآيات النارية في القتال في أمكنة أخرى مثل سورة التوبة، «قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين؟»، أو «فاقتلوهم حيث ثقفتموهم»؟
وهذا المعنى أشكل على أحد الكتاب ممن وصلتني مقالته بالإنترنت، فقال إن القرآن كتاب عنف، وإنه مصدر كل هذا الإرهاب في العالم. وهو تهور منه واستعجال، وعدم إدراك القرآن والتاريخ والسياسة والإنسان والمجتمع.
يصف (أورهان بيار): اللاعنف في الإسلام في الفترة المكية أنه «غير مرتبط بالتسامح، كما هو معروف عند رموز اللاعنف (النبي عيسى، ماني، غاندي)، بل تسامح غير القادر على الرد بالمثل، فالآيات لا تحرض على القتل والحرب، لكنها تتوعد غير الموالين للدعوة الجديدة بشر العقاب وبنار جهنم». أي إن القتل والقتال أصيل في الإسلام، أخفى وجهه لمصلحة تكتيكية. ليمضي فيقول إنه لاحقا:
«تظهر له كلمتا الغزو والسبي ومدى تأثيرهما في الحياة القبلية، ويبدل هاتين الكلمتين بأخريين الفتح والغنيمة، ويدعمه القرآن في الوسيلة الجديدة لنشر الدين، ويبدأ الإسلام بولادته الجديدة كحركة عنفية تقوم أساسا على الفتح وجمع الغنائم، وهذا ما يرجوه كل أعرابي. وبهذا الشكل ومع أول نصر لمحمد في بدر تكبر الحركة، ككرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل». ثم ليكشف الإسلام القناع عن وجهه الحقيقي حين يقول:
«ينتفي هذا الخيار الديمقراطي، ليتحول الأمر إلى تخيير بين قبول الإسلام، أو الدخول في طاعة المسلمين»، ليقرر السيد أورهان هذا الحكم أنه:
«من خلال مراجعتي المقتضبة لبعض جوانب العنف في المرجع الإسلامي الرئيسي، توصلت إلى أنه لولا العنف الذي استخدم بكثافة شديدة، لما تمكن محمد ولا من خلفه من نشر عقيدتهم»، أو يقرر: «كما توصلت إلى أن الأسلوب العنفي والإسلام شيئان متلازمان لا يمكن فصلهما، فكل شعب يسلم يتحول إلى الناطق بالحق والمسؤول عن أوامر الله على الأرض، ويبدأ باحتلال واستعمار الغير باسم الفتح، فما علاقة البرابرة الترك ونشر الإسلام، واحتلال أوربة وهم أبعد البشر عن الحضارة في الفترة السلجوقية والعثمانية». وينتهي الكاتب أورهان إلى هذه الخلاصة:
«إن العنف المنفلت من عقاله الذي نعاني منه اليوم منبعه الرئيسي هو النص القرآني، الذي يحلل قتل ومعاداة ومحاربة المخالف مهما كان، فالإسلام لا يقبل الاختلاف والعالم في نظره قسمان لا ثالث لهما، مسلمون وكفار، وواجب المسلمين هو الجهاد في سبيل الله، وهو محاربة الكفار حتى ينصاعوا لكلمة الله بقبول الإسلام، أو الخضوع والاستسلام للمسلمين».
والواقع أن السيد أورهان بيار ليس الوحيد ولا الأول، ولن يكون الأخير قطعا الذي يصل إلى هذا الاستنتاج، الذي أحزن عليه، في تكريس مفهوم العنف، حتى في حقل السلام النبوي، كما أنه ينطح جدار التاريخ بدون إثارة من علم. والحل الذي قد يقربنا قليلا للفهم ليست النصوص لوحدها إذا تعطل الفهم التاريخي، وحتى النصوص فيجب جمعها ومقارنتها بظروفها التاريخية وهو ما سنأتي عليه. فلو أردنا أن نأتي بآيات الرحمة والموعظة الحسنة، وادفع بالتي هي أحسن وكفوا وأيديكم وأقيموا الصلاة، لكانت العشرات المواجهة للنصوص التي استشهد بها الأخ الفاضل، ولو كان القرآن من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.