جدلية العلم والسلم
مع كتابة هذه الأسطر في ربيع 2016 اتفق الجباران على وقف النار في مدينة حلب السورية، بعد أن بلغت القلوب الحناجر، مع تهنئة وزيرة السخافة والإفساد القومي (عفوا وزيرة الثقافة) للطوطم السوري للعمل الرائع في تدمير سوريا، بعد أن دمر الأب قبل 34 عاما مدينة حماة فأغرقها بالدم. ولكن هذه الحرب هي في الواقع إعلان عن إفلاس أخلاقي للعالم، بأن الإنسان مازال على ظن الملائكة يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولما يولد بعد إنسان النبوات. بكلمة أخرى كان نشيد الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن بدون أثر في تحويل الإنسان من مجرم إلى عاقل، ولم يحدث هذا التحول إلا منذ فترة قصيرة فدخل الشمال المرحلة الجديدة، حيث يفهم الجباران أن إمكانية الحرب انتهت، وأن مؤسسة الحرب شبعت موتا. لذا كان من المهم فهم السياق التاريخي.
في ربيع عام 1945 سقطت النازية، وانتهت الحرب في الساحة الأوربية. كان بحث الحلفاء المحموم يدور حول غنائم من الحرب مختلفة: أدمغة العلماء؟!
في فيلا منعزلة خارج لندن، اجتمع نفر محدود، لا يتجاوز عددهم العشرين من العلماء الألمان، على غير موعد، أسرى حرب مدللين، قد هيئت لهم كل وسائل الراحة، بما يليق بمقام العلماء! بما فيها أجهزة تنصت، في غاية الحذق والضآلة والاختفاء، تحت كل منضدة وسرير، في كل زاوية، ومع استنشاق عبير كل وردة وريحان.
شبكة التنصت كانت موصولة بدماغ مركزي، يجمع المعلومات على مدار الأربع وعشرين ساعة، قد أصغت إليها آذان تتشنف أعذب الأسرار، تتقن الألمانية، ترصد الكلمات وظلالها، وما باحت العبارات وأضمرت، تسجل كل همس، وما يلفظ كل عالم إلا لديه من المخابرات رقيب عتيد.
تمت عملية الإصغاء المتتابعة لفترة ستة أشهر، في تفكيك لأسرار الكلمات والأحاديث الجانبية، في بحث مسعور، حول معرفة تطور أمرين: السلاح النووي، ونظام الصواريخ.
كان الألمان أول من طوَّر نظام الصواريخ V1 وV2 الذي قُصفت به لندن للمرة الأولى اخترعت من عبقرية شاب طموح هو فون براون.
كان من غنائم الحرب الرأس الفيزيائي الأول (أوتو هان Otto Hahn) الذي انشطرت على طاولته المتواضعة الذرة؛ فحدثت بأخبارها، لأول مرة منذ أن تحدث عنها (ديموقريطس) اليوناني، وأسس علماء المسلمين فلسفة كاملة حولها، عن منظومة الجزء الذي لا يتجزأ، هل يتجزأ؟
كان الفيزيائي (فيرنر هايزنبرغ) الذي طوَّر نظرية الارتياب أو (اللايقين UNCERTAINITY PRINCIPLE) في ميكانيكا الكم، يهز رأسه متألماً، من أخبار هيروشيما، التي دوَّت زمن الاعتقال؛ فلولا التطويرات الأولى لمفاهيم الفيزياء الذرية ما تمكن (روبرت أوبنهايمرRobert Oppenheimer) الذي كان في قبضة العسكري الأمريكي (ليزلي جروفز) في قاعدة الأبحاث النووية في (لوس آلاموس)، يتدفق عليه نهر من ذهب بلغ ملياري دولار، ومقدار من الطاقة يكفي لإضاءة مدينة كبيرة لسنوات، من تفجير أول قنبلة (بلوتونيوم) تجريبية في (آلامو جوردو) في الساعة الخامسة والنصف من صباح 16 يوليو 1945م.
من يمتلك صاروخا عابرا للقارات، يركب على رقبته رأس نووي حراري، يصل إلى أي نقطة في الكرة الأرضية، في مدى عشرين دقيقة، يصيب هدفه بخطأ يقترب من مائة متر، محسوبة برقائق الكمبيوتر، يمتلك السلطان العالمي؛ فلم تعد الدول العظمى بالامتداد الجغرافي، بل بسلطان العلم.
من يملك المعرفة يملك القوة، وارتفعت اليابان بالعلم بدون سلاح، مع قدرتها على تصنيع أي سلاح.
كانت المفاجأة من جهنم (هيروشيما) مضاعفة للعلماء والعسكريين معاً، فمن نار مشعلها ولد السلام العالمي، على غير موعد.
يروي لنا العلم هذا التناقض المحير دوماً، على صورة قانون دوري يتكرر، في شهادة صاعقة، أن كل اندفاع لتطوير سلاح عسكري يتحول في النهاية لخدمة الإنسانية والسلام العالمي. الأنترنيت ونظام الدفاع الكوني (SDI) والقنبلة النووية، كانت ثلاثة أنظمة لخدمة آلة العنف العسكري.
(الأنترنيت) في البنتاغون كشبكة اتصالات معلوماتية، و(نظام الصواريخ) خارج فضائية لاصطياد الصواريخ النووية المضادة، وشبكة (الساتلايت) للتجسس، من نموذج ثقب المفتاح (KEY – WHOLE 11) الذي يحوم حول الكرة الأرضية، في كل مدار بتسعين دقيقة، يمسح فيها الأرض، يسترق السمع مثل الجن، و(السلاح النووي) كقوة استراتيجية لامتلاك العالم، في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الذي حصل أن الأنظمة الثلاث صبت في خدمة الانسانية، تؤكد أن الزبد يذهب جفاءً، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال.
الأنترنيت أصبح كأوقيانوس طامي من المعلومات، لا تكف أمواجه عن التلاحق، تبتلع العالم في ثقافة جديدة للانسان، وتشكيل عقل عالمي بتعبير آل غور (في كتابه عن المتغيرات الستة في العالم الحديث)، وأن نماذج من أمثال ابن نوح العاق؛ لن ينفعه أي جبل يأوي إليه، في ثقافة كونية، يولد فيها إنسان عالمي الثقافة، يتنافس فيها مع الآخرين بالفكر وليس القوة.
لقد تحول رصيد (فكر القوة) إلى (قوة الفكرة) فهل يعقل هذه الحقيقة رجل رشيد؟
نظام الصواريخ الكوني وأقمار التجسس، ملأ سطوح المنازل بالدشوش، تقلب وجهها في السماء، تفتح أفواهها بلا شبع، بدون انطباق، تلتقط خبر الملأ العلوي، وما يوحى من الأخبار، بلمح البصر أو هو أقرب، تنهي عهد الكذب السياسي، ليثبت العلم نفسه كمحطم رائع للجغرافيا.
ومن حريق هيروشيما ولد السلام العالمي، في صدمة صاعقة غير متوقعة للسياسيين، الذين لا يرون في العادة أبعد من أرنبة أنوفهم، أو الجنرالات الذين أجرت عليهم مجلة الشبيجل الألمانية تحقيقاً، أنهم كانوا عبر التاريخ أكثر خلق الله بلاهة وحمقاً وإجراماً، وتبدأ الحيرة اليوم، عن أبسط الطرق وأقلها تكليفاً، لتفكيك الرؤوس النووية.
هذه المرة سبق التطبيق النظرية، وتثبت فكرة المؤرخ البريطاني (توينبي) أن الأفكار الجديدة، يجب أن تتطابق مع الوسائل المطوَّرة؛ فلا يعقل وضع الزيت الطازج، في أزقة عتيقة مهترئة؛ فلا الزيت حافظنا عليه، ولا الأوعية بقيت وصمدت.
لا يمكن لنظام العبودية مع آلة (العضلات) أن يستمر مع تقدم الآلة الحديدية. ولا يمكن للصناعة أن تترسخ وتحافظ على نفسها، في مجتمع عصري، بدون تطوير وسائل اللامركزية والديموقراطية.
هل يمكن أن ننجو من الموت كقدر؛ كذلك الديموقراطية تتقدم في العالم بقدر كوني لازب.
هذه الأفكار حول الانسان الجديد، والسلام العالمي، تشبه ظاهرة السوبرنوفا لسياسيي العالم الثالث، فكما تأخر وصول ضوء الانفجار النجمي مليون سنة إلى الأرض، فقد نبقى ألف سنة أخرى على باب العلم دون أن ندخله، لأننا لا نملك المفتاح.
مشكلة العالم العربي أنه يعيش اليوم طوفان الحداثة، بأعظم من طوفان نوح، بدون سفينة نجاة فكرية.
طوفان نوح الجديد بعد سبعة آلاف سنة، ثقافي يطم بأمواجه الهادرة المشارق والمغارب، بدون عاصم من أمواج تجري بهم كالجبال.
العالم العربي بعد سيف معاوية، ودموية الخوارج، وتحويل النبوة لملك عائلي وأئمة بعمائم سود، ومصادرة الحياة الراشدية، وتأميم العقل، وإلغاء الفن، بعد إقفال باب الاجتهاد، تدفق فيه الصليبيون الفقراء، إلى العالم الجديد، فملكوا أربع قارات، وكل البحار ومعها الثروة والنفوذ العالمي، مدججين بإدارة عالمية وليس تحت رعاية طاغية، ومراكز البحث العلمي، ومصارف المال، بدون إقطاع وكنيسة وديكتاتور.
العقل العربي اليوم يمشي منكوساً على رأسه، بدون أن يحس بالدوار، لم يتكيف بعد مع العالم الجديد، لأنه لا يعرفه، فهو لم يشترك في صناعته منذ خمسة قرون، فيما يشبه قصص السندباد مع ملك الجان الأزرق. وما يحدث من جنون الاقتتال في الشرق الأوسط هو حالة تسمم دموي مع تشنجات واختلاجات وهذيان محموم لا يعرف ماذا ينطق ويقول.