«البقرة» هي أطول سورة في القرآن عدد آياتها 286 وفيها أطول آية تتناول التداين، وفيها أعظم آية وهي الكرسي، وفيها أحكام منوعة من الصيام والحج إلى الطلاق والقتال، لكنها كما في العديد من السور تبدأ بحروف غامضة بدون معنى يضمها، ألف لام ميم (ا ل م).
هذه البداية لأطول سورة في القرآن تضم جزأين ونصف الجزء ليست الوحيدة في افتتاحها بالحروف، منها بحرف واحد مثل (ن) لسورة «القلم» = «نون والقلم وما يسطرون»، ومنها بحرف صاد «ص والقرآن ذي الذكر»، ومنها بحرف (ق) «قاف والقرآن المجيد». ومنها بحرفين مثل سورة «ياسين» (ي س) «يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين»، أو سورة «طه» (ط هـ) «طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى»، أو سورة «غافر» (ح م) «حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم». أو أن تبدأ بثلاثة حروف مثل الموجودة في سورة «آل عمران» (ا ل م)، أو «يونس» (ا ل ر)، أو «هود» (ا ل ر)، أو كما ذكرنا عن مطلع سورة «البقرة» الم (العنوان من قصة حافلة بالألغاز عن رجل مقتول يدل على القاتل بطريقة قتل بقتل، مثل الرياضيات بضرب السالب بالسالب فتكون النتيجة موجبا (ـ x ـ = +)، أي تذبح بقرة ويؤخذ من لحمها ليضرب بها الميت فيدل على القاتل، وهي قصة تحتاج إلى أن تفرد ببحث خاص لجدلية خاصة في فهم تناقضات الكون). أو قد تكون أربعة حروف كما في مطلع سورة «الأعراف» (ا ل م ص)، بل قد تصل إلى خمسة حروف وتبقى بدون أي معنى، كما في بداية سورة «مريم» (ك هـ ي ع ص)، أو مطلع سورة «الشورى» (ح م ع س ق = حم عسق)، «كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم». أكثر من هذا العدد للحروف لا يوجد في القرآن الكريم!
وبتأمل الحروف تبقى مجرد ألغاز ولا تحمل أي معنى، نحن نعرف من اللغة أن هناك ثمة حروف جر مثل (من – عن)، ولكن ا ل ر (ألف لام راء) لا معنى لها وليست حروف جر ولا ظرفا زمنيا أو ظرفا مكانيا، مثل حين تقول: أين وكيف ولم وماذا ومن؟
هناك من تكلف في التفسير وأبحر بغير زورق وشراع، وطبعا نتوقع المذهبية فيها، فذهب البعض إلى أن فيها ذكر علي رضي الله عنه، كما لو جمعت الحروف فقلت نستخرج من مجموع الحروف، وهي 14 حرفا (ا ل م ر ق ن ص ك هـ ي ع ح س ط )، ما يفيد بأن عليا ولي الله، أو يمكن أن نلعب بها فنستخرج ما نراه مناسبا لأذواقنا ويفيد اتجاهنا المذهبي أو العقلاني. فيمكن استخراج كلمات شتى فهي 14 حرفا، أي قريب من نصف حروف اللغة المعروفة في 28 حرفا في اللغة العربية، أي نصف حروف الهجاء. وهنا يبدأ اللغز والمعضلة. وهناك من رأى فيها لغة كونية سوف يتخاطب بها أهل زحل وبلوتو، وهي ليست نكتة، بل ذكرها الشحرور الشامي الذي كتب فيها، والرجل كما أسميه حاوي السيرك الذي يخرج من القبعة السوداء أرانب بيضاء، ويمكن لطريقة اللعب بالكلمات أن يخرج منها كل معنى أو لا معنى. وهي المعضلة التي وقف أمامها أيضا الفيلسوف فتغنشتاين، حين عرّف اللغة أنها لا تزيد على لعبة، وحاول الاهتداء إلى الحقائق من الكلمات فضل طريقه وما هدى، ومنه اعتمد كل من ابن خلدون والغزالي على طريقة هي أقرب إلى الحقيقة، حين قال ابن خلدون: اذهب إلى شمس المعاني فاقطف المعنى، ثم ألبسه من ثوب الألفاظ ما تشاء وهي كل لغات العالم، فالشجرة باللغة العربية شجرة، ولكنها بالإنجليزية (تري = TREE)، كما أنها باللغة الألمانية (باوم = BAUM) وهكذا. ومنها قال الغزالي إن من أراد أن يأخذ المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، وكان كمن يريد الذهاب إلى المغرب فيقصد المشرق وأعطاه ظهره، جاء هذا في كتابه «المستصفى من علم الأصول»، في تأسيس جدلية اللفظ والمعنى.
نرجع من جديد إلى حروف فواتح السور، فلماذا ذكرها القرآن وأي فائدة منها؟ وما هي دلالتها؟ بالرجوع إلى الحرف أو خمسة حروف نرى مباشرة بعدها إشارة إلى القرآن ذي الذكر أو الكتاب المبين أو القلم وما يسطرون، فما علاقة الحرف بالكتاب؟ هذه المعضلة تذكرني بأيام السجن في معتقل المخابرات العامة الفرع 273، حينما كنا محشورين عشرة أشخاص زربا في غرفة تتسع بالكاد لشخصين، وكنت مع جودت سعيد حين ذهب إلى أن القرآن كتاب حياة فهو ليس رواية ومنه تعددت نفثاته، كما ذكر نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زرادشت»، بمعنى هي انطلاقات فكرية منوعة تأتي حسب المناسبات، وهي فكرة مهمة جدا عن مرحلية القرآن. فإذا جئنا إلى اللغة وجدنا أن جذرها الذي تتكون منه الكلمات هو الحروف؛ فكما كان رقم واحد هو بدء أي رقم بعده، كذلك كان الحرف هو الذي يشكل الكلمة ومن الكلمات المعاني، فنقول شجرة ونهر وبحر وسماء، ومن رصف الكلمات تأتي الجمل المعبرة تحمل الاسم والفعل وحرف الجر والظرف، فأكتب كما هو في مقالتي هذه: أنا في مدينة الجديدة في المغرب أستمتع في يوم 25 مارس من عام 2023 م بطقس رائع، في حين تقول لي ابنتي أروى من مونتريال في كندا نحن في عاصفة ثلجية. الجملة هنا طويلة جديدة، ولكن من يقرأها يقفز المعنى إلى ذهنه في حركة عقلية عجيبة جعلت القرآن يقسم باللغة والنطق، «فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون».
خالص جلبي