جدران فاصلة في عالمنا المعاصر
مالك التريكي
يظهر ترامب مندهشا أمام سور الصين العظيم وهو يسأل شي جينبنغ: «عجبا! حتى أنتم تواجهون مشكلة مع المكسيكيين؟».
سؤال أبدعه خيال رسامي الكاريكاتير، ولكنه يبقى قابلا للتصديق حتى لو حدث أن الرئيس الأمريكي طرحه بالفعل وورد في نشرات الأنباء التي ليست في عرفه سوى «أخبار زائفة». سؤال ترامبي ثاقب. إذ ماذا يمكن أن تعنيه الأسوار والجدران في عالم اليوم، سوى أن جحافل اللاجئين والمهاجرين داهمة وأنه لا بد من صدها ومن التحصن ضدها؟ سؤال ترامبي مناسب للأجواء الحالية التي تسم إحياء ذكرى سقوط جدار برلين هذا الشهر بطابع الالتباس والحيرة، الناجمين عن تفسخ الدلالة الأصلية المفترضة. إذ كان الافتراض العام أن سقوط جدار برلين علامة من أوضح العلامات على بداية زوال الحدود بين أحياء القرية الكونية المعولمة، وعلى بداية بروز النظام العالمي الجديد الذي بشّر به الرئيس بوش الأب بعد ذلك بعامين. كان الافتراض أن جميع الأسوار والجدران الفاصلة بين الجماعات والثقافات والديانات ستنهار بذاتها، أو ستسقط بإرادة الشعوب التي تفتح وعيها على ضرورة الحرية وعلى وحدة المصير الإنساني. ولكن من ذا يستطيع الزعم اليوم، رغم مضي ثلاثين سنة، أن الأسوار والجدران سقطت داخل أوربا ذاتها، ناهيك عن بقية العالم؟
ولهذا فإن هنالك اتصالا دلاليا أو رمزيا بين استمرار ظاهرة إقامة الأسوار والجدران في عالم اليوم (في فلسطين المحتلة، وفي أمريكا وفي بعض بلاد أوربا الشرقية، الخ) وبين قصة جدار برلين، أي إن هنالك اتصالا بين سؤال الجدار الترامبي وبين إشكال الجدار الألماني الذي تعلقت به، وبظاهرة الفصل الجيوستراتيجي أو التقسيم الإنساني عموما، عبارات هي من أميز ما رسخ في ذاكرة القرن العشرين. ولا شك أن أشهرها هي عبارة «إنني برلينيّ» التي أطلقها الرئيس الأمريكي جون كينيدي، أثناء زيارته برلين الغربية في 27 يونيو 1963. تجول كينيدي برفقة المستشار الألماني الغربي، فيلي براندت، وأعلن انتماءه إلى برلين والتزامه بها في خطاب مضى في التاريخ على أنه أشهر خطبه على الإطلاق. كانت عبارة «إنني برليني» التي تردد صداها أمام جدار برلين رسالة إلى الاتحاد السوفياتي، بأن العالم الحر لن يرضى بدوام النزيف الناجم عن جرح التقسيم.
أما أبكر هذه العبارات فقد أتت على لسان ونستون تشرشيل. خطب أمام تلاميذ مدرسة وستمنستر الثانوية، في بلدة فولتون بولاية ميزوري (موطن مضيفه الرئيس هاري ترومان) يوم 5 مارس 1946، فقال: «لقد تحدثت عن الخطرين الأكبرين اللذين يحدقان بالشعوب: الحرب والاستبداد (..) إلا أن من واجبي أن أضع أمامكم بعض الوقائع المتعلقة بالوضع الراهن في أوربا. لقد نزل ستار من حديد على امتداد القارة الأوربية، من ستتين في البلطيق إلى ترييست على بحر الأدرياتيكي». ومنذئذ صارت عبارة «الستار الحديدي» أشهر الصور المجازية عن تقسيم أوربا وعن دخول العالم بأسره في منطق الحرب الباردة التي ظلت، طيلة أربعين سنة، تخيم بنذرها المفزعة على مصير الإنسانية.
الطريف أن المدرسة ذاتها كشفت لنا أخيرا قصة مولد عبارة «اهدموا هذا الجدار» الشهيرة، التي أطلقها الرئيس رونالد ريغان لما زار برلين الغربية في 12 يونيو 1987. فقد تحدث الكاتب بيتر روبنسون، الأسبوع الماضي، في مدرسة وستمنستر عن فترة عمله ضمن فريق كتاب خطب ريغان ونائبه بوش، وروى كيف أنه اعتلى، أثناء تلك الزيارة التاريخية، منصة ليطل على برلين الشرقية، فما أن رأى شحوبها وذبولها حتى خطرت له العبارة وألحت. إلا أن معظم أعضاء مجلس الأمن القومي ومسؤولي وزارة الخارجية أصروا على حذف العبارة مخافة استفزاز القيادة السوفياتية؛ بل إن مستشار الأمن القومي كولن باول صرخ في وجه بيتر روبسنون حنقا، فرد هذا بالمثل. طال الجدال واحتد فصارت المسودات المقترحة لا تقل عن سبع! ولكن ريغان حسم الأمر لصالح الصيغة المعروفة التي حفظها التاريخ. أهاب ريغان بغورباتشوف، أكثر من مرة، أن يزيل الجدار. وفي الختام قال: لما نظرت قبل قليل من علو مبنى الرايشستاغ، رمز الوحدة الألمانية، رأيت مكتوبا على الجدار، ربما بخط شاب برليني، «هذا الجدار سينهار. والمبادئ تصير وقائع».