شوف تشوف

الرأي

جدار صهيون

بقلم: خالص جلبي

قبل أن يغرغر شارون في سكرات الموت، جاءته فكرة جنونية لحماية دولة إسرائيل ببناء جدار (صهيون). وفي التاريخ جرت محاولات أشد هولا لبناء جدران، ثبت أنها لم تنفع في الحماية. وباستعراض محاولات البشر لبناء أسوار شتى، نرى أنها في النهاية تحولت إلى أكوام من التراب. ولنستعرض دروس التاريخ لنرى.
إن الشيء الوحيد الذي يرى من خارج الكرة الأرضية بواسطة القمر الصناعي، هو سور الصين. وعندما زار نيكسون الصين وجلس ماو تسي تونغ بجانبه، حدثه عن تاريخ الصين وكلف من حوله بأخذ الرئيس الأمريكي ليمشي فوق قسم من هذا السور. وهو سور يمتد لمسافة تزيد على ثلاثين ألف ميل، بما يطوق الكرة الأرضية أكثر من مرتين في ما لو وضع على خط واحد متصل. ويمكن أن يمشي فيه أربعة من الخيالة أو عشرة أشخاص مصفوفين بجنب بعضهم البعض. ويبلغ ارتفاعه في بعض الأمكنة ألف قدم. وهو يمشي متعرجا فيتسلق الجبال أو يغوص في رمال صحاري (غوبي). وصمم ليحجز القبائل البربرية من المغول والتتار والمنشو والهون من التدفق، فهل أفلح؟
كانت المرحلة الأولى على يد جبار عنيد هو من أعطى الصين اسمها (شين). بدأ حكمه في ولاية صغيرة، ثم التهم الولايات المجاورة بأشد من دودة القز لورق الشجر الأخضر، ووحد الصين بسيف ولهيب ومذابح، وكان مجنونا يشبه إيفان الرهيب الروسي، فيقتل على الظنة ويدفن الناس بالجملة، وكانت حفلة البناء الأول سريعة كالصاعقة في 12 سنة، في ما يذكر بسور برلين الذي أقيم في ليلة واحدة مع الفارق. وقام السور بامتداد أربعة آلاف ميل، ومعه عظام المطحونين الفقراء بمئات الآلاف، كان ذلك في القرن الثاني قبل الميلاد. ثم تعاقب العمل عليه في عهد المينغ، بعد ذلك بقرون، فبنوه أعظم وأطول بـ6500 ميل، ثم اجتاحه جنكيز خان. وعندما طردهم الصينيون أرادوا أن لا يكرروا خطأهم بأي ثغرة، فبنوه من جديد بأطول وأفظع هذه المرة بالحجارة الصماء أقوى بمائة مرة من الطين والقش، اللذين بني به سابقا. ولكن قبائل (المانشو) اجتاحوه في عام 1644م بسبب قصة حب عجيبة، عندما فتح قائد عسكري موثوق به الجدار لهم. وأعظم القصص التي تذكر وتحولت إلى أسطورة هي قصة الزوجة الحزينة، التي جاء تسأل عن زوجها الذي يعمل في بناء السور: «أين هو؟»، كانت كلما وصلت إلى مجموعة عمل، أخفوا عنها الحقيقة وقالوا لها: «أسألي الآخرين»، وهكذا مشت الزوجة الوفية الصابرة السور بطوله. وعندما ختمت رحلتها في نهاية السور صارحوها بالحقيقة: «لقد مات زوجك». كان بكاءها فظيعا ارتجت له السماوات العلا واستجاب الله لدعائها، فانهدم السور في ثغرة كبيرة. ويحدق السياح اليوم في مكان الأسطورة، إنها ليست أسطورة، بل هي أعظم من الحقيقة عن معنى ظلم الإنسان. واليوم لم تبق من السور إلا قيمة تاريخية في رواية عن عبثية الحرب وأهمية السلام، وبقايا من رسائل المعذبين وقبورهم المنتشرة بدون هوية هنا وهناك حول امتداد السور. هذا ما كان من سور الصين، ولكن التاريخ يروي قصصا شتى عن عبثية عمل من هذا النوع؛ فقد بنى الإمبراطور الروماني (هادريان) عام 122 م سورا في بريطانيا لصد البرابرة بزعمه. وأراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية حماية نظامهم بجدار برلين. كما قطعت جزيرة قبرص بين الأتراك واليونانيين، بخطوط حمراء فوق جزيرة عاش فيها الناس سوية، منذ عشرة آلاف سنة. وحاول الجنرال (غراتسياني) أن يرضي زعيمه الفاشي موسوليني، فوضع الشعب الليبي كله في معسكرات اعتقال. وكرر ما فعله جده الروماني (هادريان) من جديد، على صورة أسلاك شائكة وألغام بين مصر وليبيا. وتحاول إسرائيل اليوم تكرار الخطأ التاريخي، وبناء جدار بين اليهود والفلسطينيين من أسلاك شائكة مكهربة محروسة بالرشاشات والأنوار الكاشفة والكلاب. والتاريخ يخبرنا أن جدار هادريان لم يبق منه سوى ذكره في الكتب، ومات صاحبه أشنع ميتة في أشد الألم، بعد أن فقد عقله. وبقي السور العظيم تحفة للسائحين. وسقط جدار برلين عام 1989م، ويحتفظ الألمان بقطع من حجارة السور في بيوتهم، كتحف أثرية لتاريخ أسود آية للمتوسمين. وتحرر الشعب الليبي من قبضة الفاشية، ومات غراتسياني ملعونا. وعلق موسوليني من عقبيه مثل الخروف، في المسلخ البلدي، مع عشيقته. وهو المصير نفسه الذي ينتظر سور إسرائيل الجديد، وما آل إليه السفاح شارون بعد السبات إلى الممات.
ومشكلة السور الجديد في إسرائيل أنه مثل كل قصص العزل والعنصرية، وسوف ينقلب عليهم ويحول إسرائيل إلى غيتو كبير من حيث لا يعلمون. صحيح أن هذا السور سيمثل عملية جراحية كبرى مثل فصل التوائم السيامية، ولكن هذا النوع من الجراحة ليس ممكنا كل مرة، ولا ينجو من مضاعفات قاتلة. وعندما حاول الجراح الماليزي فصل الأختين الإيرانيتين في صيف 2003م، ماتت الاثنتان. فليست كل عملية فصل سيامية ناجحة، خاصة إذا كانت رأسين برأس وصدرين بقلب. وما بين إسرائيل وفلسطين اتصال سيامي يحتاج إلى خبراء اجتماع وتاريخ، أكثر من الجراحين غير المؤهلين من أمثال شارون ونتانياهو. وعمليات الفصل السيامية لها مراكزها المتخصصة وأطباؤها البارعون ونتائجها المدمرة أحيانا، ولكن إسرائيل تفعل ما فعله الجرذ الذي استأجر لنفسه مصيدة، وتنسى أنها سفينة مسلحة في محيط غادر، وأن أمواج المحيط في النهاية يمكن أن تغرق أعظم السفن. وأن حملة قوبلاي خان على اليابان بـ140 ألف جندي و3200 سفينة انتهت في بطن التايفون، وأن طوفان نوح لم يبق على الأرض من الكافرين ديارا، وأعظم الكفر الظلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى