جحيم فيردان وذاكرة الإقصاء
انطلقت في مجموع فرنسا مراسم الاحتفال بمئوية اندلاع معركة فيردان (شمال شرق فرنسا)٬ التي اندلعت في 21 فبراير واستمرت إلى غاية 19 دجنبر من عام 1916، والتي تقاتلت خلالها بشكل شرس ووحشي الجنود الفرنسية مع الجنود الألمانية. دام الاقتتال بلا هوادة 300 يوم وليلة… هذا اليوم٬ يترحم بمقبرة دروامان بفيردان كل من فرانسوا هولاند وأنجيلا ميركيل على أرواح ورفاة جنود فرنسيين وألمان، وستكون لحظة تقارب بين البلدين٬ لكن من دون أن ينسى الطرفان بشاعة اسمها فيردان. ذلك أن هذه الحرب أدخلت البشرية في طور جديد من الهدم والتخريب. وقد أمكن اليوم، بفضل تقنيات الترميم والحفظ التكنولوجي للصوت والصورة، إعادة صياغة بعض المعارك التي وقعت على بعض الجبهات. وقدمت القنوات الفرنسية أشرطة وثائقية نادرة كما أقيمت ندوات ومعارض واستعراضات لتقريب الجمهور من حرب شمولية ما زالت تشغل، مثلها مثل الحرب العالمية الثانية، حيزا كبيرا في المخيل الفرنسي. ولئن كانت هذه الأخيرة وليدة الصناعة الحربية الثقيلة والفتاكة مع انبثاق الطائرات النفاثة، والقنبلة الذرية والدبابات الكاسحة إلخ… فإن حرب فيردان بشمال فرنسا كانت حربا بدائية وكمية على جميع المستويات. على المستوى البشري٬ الذخيرة٬ استهلاك السلاح٬ وقد لعب العنصر البشري دور قوة الدفع الأولى حيث جند على الجبهتين (الفرنسية- الألمانية): مليونا جندي ألماني ومليون ونصف المليون جندي من الجانب الفرنسي. وقد ألقيت من الجانبين على مساحة لم تتعد 911 هكتارا 3 ملايين قذيفة. في غمرة طقس جليدي٬ في جحيم النار والغبار والرصاص ووحل الخنادق٬ ألقت فرنسا بجنود ما سمي إفريقيا الشمالية وإفريقيا السوداء (المغرب٬ تونس٬ الجزائر٬ السنغال إلخ…)٬ إلى الخنادق وجبهات القتال والصفوف الأمامية كما لو كانوا، بحسب العبارة الفرنسية، «لحم مدافع». وكانوا بالفعل قرابين نحرت على أرض وتراب ماتوا بها ولا أحد يعرف هل تم دفنهم بحسب الشعائر الإسلامية.
اللافت أن غالبية هؤلاء الجنود المطوعين، وليس المتطوعين، قد انتشلوا من الحقول (غالبيتهم من الفلاحين) أو من بيوتهم، فيما كانت بلدانهم ترزح تحت الاستعمار. بمعنى أنه تم إخضاعهم للقوانين التي تحكم الاستعمار.
ونفس الحال ينطبق على الهنود المسلمين الذين جندتهم بريطانيا خلال هذه الحرب، والذين بلغ عددهم مليونا ونصف المليون جندي. وقتل من بينهم في معركة فيردان 47 ألف جندي، فيما بلغ عدد الجرحى 55 ألفا. وتجدر الإشارة إلى أن ما أطلق عليه «جيش المستعمرات» خاض معركة فيردان إلى جانب القوات الفرنسية، وأن 700 ألف منهم قضوا في المعارك، بحسب إحصائيات نشرتها وزارة الدفاع الفرنسية عام 2010. السؤال اليوم هو:
أي مقابل مادي أو رمزي ناله هؤلاء الجنود؟ صحيح أن فرانسوا هولاند قام أخيرا٬ أي قبل سنتين٬ بالتفاتة تكريم في حق الجنود المسلمين «الذين لن تنسى فرنسا أبدا ثمن الدم الذي أهرقوه في سبيل فرنسا»، لما افتتح النصب التذكاري الذي دشنه في رحاب المسجد الكبير بباريس. لكن هذه «الالتفاتة» لا تزن أوقية مقارنة بالحرص الذي تستثمره الدولة في الحفاظ على ذاكرة الحرب الفرنسية. ما يعرف بـ«الجنود المسلمين» ليس لهم نصيب في الذاكرة الجماعية الفرنسية: لم تعرض مآثرهم في متاحف أو «غاليريهات»٬ لم تحظ تضحياتهم بندوات أو مناظرات وطنية، كما لم تلصق لوحات أو نصب تذكارية في الأزقة باسمهم ولا أطلقت أسماء بعضهم على الشوارع. تعاملت فرنسا معهم وكأنهم سليلو مستعمرات لا غير وفي أحسن الأحوال كأجانب. كما أن كتب ومقررات التاريخ لا تأتي على ذكرهم البتة. قامت ذاكرة الحرب الفرنسية على إقصاء الآخر وعلى إلغائه بالمرة، إذ المكان الوحيد المعترف له به هو مساحة الموت. هذا اليوم ترحم هولاند وميركل على أرواح ورفات شهداء وقتلى حرب فيردان، وفي ذاكرتهما لربما حضرت فقط ذكرى الجنود الفرنسيين والألمان. أما أرواح شهداء ما سمي «الجنود المسلمين» فستبقى غائبة ومغيبة.