جاك شيراك آخر الدوغوليين
سعيد الباز
عاشت فرنسا، في الأسبوع الماضي، حدثا مؤثرا على المستويين التاريخي والسياسي، تمثل في مراسيم توديع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك. كان الحدث مليئا بالكثير من الدلالات المعبرة عن العمق الوجداني الفرنسي ونهاية حقبة من السياسيين الذين بنوا صرح الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ تأسيسها على يد الرئيس الفرنسي الراحل شارل دوغول الذي لم يكن فقط بطل تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، بل الفاعل السياسي الأبرز في تاريخ فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية حتى استقالته واعتزاله للعمل السياسي حتى وفاته.
كان الجنرال شارل دوغول محور الحياة السياسية الفرنسية سواء في اليمين أو اليسار، وفي الوقت نفسه شكّل تيارا سياسيا من أهم معالمه أنه يميني في عقيدته السياسية، وطني في نزعته إلى حدّ الاستقلالية في علاقته بالدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك إيمانه بقيم الجمهورية الفرنسية. اكتسب هذا التيار السياسي ورثة شرعيين له كان من أبرزهم الرئيس الراحل جاك شيراك الذي كان أقرب إلى صورة شارل دوغول في الوجدان الفرنسي.
في مراسيم التأبين واصطفاف الفرنسيين لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على رئيسهم الراحل، تبيّن للجميع مدى ما يحظى به الرئيس الراحل من حبّ وتقدير لدى الفرنسيين عامة ومن مختلف الفئات العمرية التي عاشت فترات مهمة من رئاسته، مع ما واكبها من أحداث خطيرة وصراعات حادة عرف فيها الرئيس جاك شيراك لحظات مجيدة، مثل موقفه الشهير ضد حرب العراق في مواجهة صريحة مع الرئيس بوش الابن، وأخرى رمادية اللون مثل حلّه للبرلمان وهو في عز قوته ليصعد الاشتراكيون ويضطر لأن يقضي ما تبقى من فترته الرئاسية في ما سمي فترة «التعايش» مع الوزير الأول الاشتراكي ليونيل جوسبان. وفي الأخير فضيحة الإدانة بالفساد وتبديد المال العام والحكم عليه بسنتين موقوفتي التنفيذ كانت بمثابة صفعة قوية لمسيرته السياسية.
إنّ السمة الغالبة على المسار السياسي للرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك هي سمة التناقض في كلّ شيء، فهو بدأ حياته السياسية شيوعيا لما كان طالبا وانقلب بعدها دوغوليا متحمسا. عرف في فرنسا بشيراك العربي وكانت له شعبية في العالم العربي منقطعة النظير بسبب مواقفه المؤيدة للقضايا العربية، وصداقاته المعروفة مع جلّ الزعماء العرب، لكنه بدأ حياته، أيضا، ضابطا في الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر. كان بإمكانه الانتقال بيسر من موقف إلى آخر مناقض تماما دون أن تتغيّر صورة شيراك السياسية، فهو آلة سياسية مرنة تعرف وقت التراجع والهجوم الكاسح، كان بإمكانه ألّا يتحمّس كثيرا للاتحاد الأوروبي على حساب استقلالية فرنسا، وأن يكون بعدها من أشرس المدافعين عن الوحدة الأوروبية. أثناء رئاسته لم يتورع في أن يدفع فرنسا إلى إجراء مزيد من التجارب النووية، وفي فترة لاحقة أن يدعو إلى اعتماد سياسة بيئية.
خلال ممارسته الحكم، ظلّ شيراك يراوح بين سياسة تظهر تعاطفا مع معاناة الفرنسيين من الطبقة الكادحة على مستوى الخطاب والإشارات الودية بين الحين والآخر، لكن سياسته في العموم كان يحكمها إطار ليبرالي لا محيد عنه. لكنّ الأمر الأساسي هو أن شيراك طبع سياسته بطابع شخصي يمزج بين الظرف الفرنسي وميله الطبيعي إلى إطلاق النكات الموحية والتعاليق الساخرة، وقد ظهر ذلك في المناظرة الشهيرة مع فرانسوا ميتران حين استفز هذا الأخير مطالبا إياه بعدم مناداته بالوزير الأول، بدعوى أنهما معا مرشحان للرئاسة. فما كان من ميتران إلا أن ردّ عليه: «أنت على حق، سيدي الوزير الأوّل»! هنا انهارت مرونة شيراك ودهاؤه السياسي أمام صلابة العجوز ميتران وعناده الشهير.
بموت شيراك تنتهي حقبة سياسية قائمة على حقيقة أنّ السياسي هو الأسلوب، والأسلوب في فرنسا كان دائما اللغة الفرنسية.