نقدم في هذا العدد من الملحق الثقافي لجريدة «الأخبار» محور «جائزة البوكر البريطانية»، التي أصبحت، بعد جائزة نوبل، أمثولة الجوائز الناجحة، الشفافة، العادلة إلى حدّ ما، المنتظرة والمرتجاة من طرف كتاب الرواية في اللغة الإنجليزية أو المترجمين إليها. ولعل سمعتها الطيبة، التي تتألّق كل سنتين، جعلتها تتفرع إلى فرع إفريقي، سنة 2000، وآخر عربي منذ 2007. تُرى هل الفرعان الإفريقي والعربي ينتميان فعلاً إلى تلك الشجرة؟ عرفت البوكر البريطانية عدّة أسماء وعناوين، لكن إصرارها على اختيار الأفضل والأجمل والأجدر بالانتماء إلى الخيال الأدبي هو استراتيجيتها الخاصة، التي سخرت لها لجان فعالة، ومحكمين من أرفع الأدباء في العالم.
محمود عبد الغني:
كانت جائزة البوكر البريطانية تُسمّى بين 1969 و2002 جائزة مان بوكر، وبين 2002 و2019 عرفت باسم جائزة بوكر ماكونيل. وهي من أهم الجوائز الأدبية المخصصة للأعمال الروائية باللغة الإنجليزية، وذلك منذ تأسيسها سنة 1968؛ وتُمنح لأفضل رواية من تأليف كاتب من المملكة المتحدة، أو من دول الكومنولث أو من جمهورية إيرلندا. وتضمّ لجنة تحكيم الجائزة نخبة من أهم النقاد والكتاب والأكاديميين، يتغيّرون كل سنة بغية الحفاظ على مصداقية الجائزة ومستواها.
تختص الجائزة في جنس الرواية حصراً، وتُمنح سنوياً لعمل واحد مترجم إلى الإنجليزية على أن يكون منشوراً في بريطانيا أو إيرلندا، ويقتسم المؤلّف الأصلي والمترجم القيمة المالية للجائزة، وقدرها 50 ألف جنيه إسترليني. كما أنه، إلى جانب العائد المالي، للجائزة قيمة أدبية كبيرة تتمثل في الترجمات التي يخضع لها العمل الفائز والشهرة العالمية التي ينالها.
تفرعت من «البوكر» ثلاث جوائز عالمية للرواية هي: جائزة بوكر الروسية التي تأسست عام 1992، وجائزة كاين للأدب الإفريقي عام 2000. وفي أبريل 2007 تم إطلاق الجائزة العالمية للرواية العربية، بالشراكة بين «مؤسسة بوكر» و«هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة» و«معهد وايدنفيلد للحوار الاستراتيجي».
روائيون عرب فازوا بجائزة «مان بوكر» البريطانية
الروائي العراقي أحمد سعداوي في المركز الثالث عن روايته “فرانكشتاين في بغداد”
جاء الروائي العراقي أحمد سعداوي في المركز الثالث خلال حفل جائزة البوكر الدولية، في لندن، سنة 2018، وذلك عن روايته «فرانكشتاين في بغداد». وأعلنت لجنة التحكيم قائمة فائزي هذا العام، التي ضمت خمس روايات أخرى هي: «رحلات» للبولندية أولغا توكارتشوك، و«مثل ظل باهت» للإسباني أنطونيو مونوز مولينا، و«فيرنون سوبوتيكس» للفرنسية فيرجيني ديبانت، و«الكتاب الأبيض» للكورية الجنوبية «هان كانغ» و«العالم يستمر» للمجري لازلو كراسناهوركاي.
ويعد سعداوي خامس روائي عربي يترشح للجائزة بعد المصري نجيب محفوظ واللبنانيين أمين معلوف وهدى بركات والليبي إبراهيم الكوني.
يشار إلى أن مان بوكر هي جائزة بريطانية من أرفع الجوائز العالمية في عالم الأدب، وعادة ما تؤدي لارتفاع مبيعات كتب الفائزين بها.
قام جوناثان رايت بترجمة رواية «فرانكشتاين في بغداد» من العربية إلى الإنجليزية، كما تلقى السعداوي عروضاً لتحويل روايته إلى مسلسل، بالتعاون مع استوديوهات «نيتفليكس» و«أمازون فيديو».
تحكي رواية «فرانكشتاين في بغداد» قصة بائع في حي شعبي ببغداد يقوم بلصق بقايا بشرية من ضحايا الانفجارات إبان الحروب الطائفية خلال عامي 2005 و2006 ويخيطها على شكل جسد جديد، في استلهام من رواية ماري شيلي التي اشتهرت بفرانكنشتاين.
وسبق للسعداوي أن حصد بالرواية ذاتها المركز الأول بالجائزة العالمية للرواية العربية البوكر التي تمولها هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة وتدعمها مؤسسة جائزة البوكر البريطانية.
ومنذ عام 2005 تمنح جائزة البوكر الدولية في بريطانيا، كل عامين، لاختيار روايات وأدباء من كافة أنحاء العالم التي تصدر أعمالهم بالإنجليزية أو تترجم لها.
الروائية العمانية جوخة الحارثي تفوز بجائزة مان بوكر البريطانية سنة 2019
فازت الروائية العمانية جوخة الحارثي بجائزة «إنترناشيونال مان بوكر» البريطانية المرموقة، عن روايتها «سيدات القمر»، التي تتحدث فيها عن مرحلة مهمة من تاريخ سلطنة عُمان.
وهذه هي المرة الأولى التي يفوز فيها كاتب أو كاتبة عربية بهذه الجائزة التي تنافست عليها هذا العام ستة أعمال صادرة بلغاتها الأصلية وتُرجمت إلى اللغة الإنجليزية، وصدرت في بريطانيا.
وحصلت جوخة على قيمة الجائزة وهي 60 ألف دولار مناصفة مع الأكاديمية الأمريكية مارلين بوث، وهي أستاذة للأدب العربي في جامعة أكسفورد، التي ترجمت رواية «سيدات القمر» من العربية إلى الإنجليزية.
كتبت الروائية العمانية من قبل مجموعتين من الروايات القصيرة وكتابا للأطفال وثلاث روايات باللغة العربية. درست جوخة الشعر العربي الكلاسيكي في جامعة إدنبرة باستكلندا، وتعمل حاليا مدرسة بجامعة السلطان قابوس بالعاصمة العمانية مسقط.
وتفوقت الكاتبة العمانية، 41 عاما، على خمسة منافسين ضمتهم القائمة القصيرة للجائزة، من فرنسا وألمانيا وبولندا، وكولومبيا وتشيلي.
تحكي رواية «سيدات القمر» قصة ثلاث شقيقات يواجهن تغييرات تحدث في المجتمع العماني وكيف تتعامل عائلتهن مع هذه التغيرات.
وعن فوز جوخة الحارثي قالت لجنة تحكيم الجائزة، في حيثيات قرارها، إن الرواية كانت «نظرة ثاقبة خيالية وغنية وشاعرية في مجتمع يمر بمرحلة انتقالية، وفي حياة كانت مخفية في السابق».
تدور أحداث الرواية في قرية «العوافي» في سلطنة عمان، حيث تواجه ثلاث شقيقات: مايا، التي تزوجت من عبد الله بعد مشاكل كثيرة، وأسماء، التي تزوجت فقط كواجب اجتماعي، وخولة، التي تنتظر حبيبها الذي هاجر إلى كندا.
وقال المحكمون في البيان «إنها (الرواية) منظمة ومبنية بأناقة وهي تحكي عن فترة زمنية في عمان من خلال مشاعر الحب والفقدان داخل أسرة واحدة.» أما صحيفة «الغارديان» البريطانية فوصفت الرواية بأنها تقدم «لمحة عن ثقافة غير معروفة نسبيا في الغرب»، بينما قالت صحيفة «ذي ناشيونال» إنها تشير إلى «ظهور موهبة أدبية كبرى». ووصفت الرواية بأنها «إنجاز قوي ومنسوجة بحرفية وبها خيال عميق».
وقالت رئيسة لجنة التحكيم، بيتاني هيوز، إن الرواية أظهرت «فنا حساسا وجوانب مقلقة من تاريخنا المشترك». وأضافت أن «الأسلوب يقاوم بمهارة العبارات المبتذلة عن العرق والعبودية والجنس».
المترجمة التركية سارة أُوزتُرك لـ«الأخبار»:
الترجمة من التركية إلى العربية استمرت رغم الحقد التاريخي بين تركيا والعرب
حاورها: حسن الوزاني
تنتمي سارة أوزترك إلى الجيل الجديد من المترجمين الأتراك الذين يخوضون تجربة الاقتراب من اللغة العربية بكثير من العشق. حصلت على ماجستير الفنون الجميلة من الجامعة الوطنية في كاليفورنيا، وعلى الدكتوراه في مجال دراسات الترجمة من جامعة بوغازجي في إسطنبول. ترجمت سارة أوزترك عددا من الأعمال العربية إلى التركية، من بينها كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، ورسالة «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي و«كتاب التوّابين» لابن قدامة المقدسي. وترجمت، كذلك، أعمالا من الإنجليزية إلى العربية، من بينها: «ترجمات مختارة من شعر إيميلي ديكنسون»، و«الزن في فن الكتابة» للكاتب الأمريكي راي برادبري، الذي عربته رفقة هيفاء القحطاني وآخرين. فضلا عن أن سارة أوزترك أصدرت عددا من الأبحاث العلمية في مجال علم الترجمة.
- ولدتِ بالمدينة المنورة ودرست بها خلال سنوات، ما الذي تحتفظين به من هذه التجربة؟
+ محبة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، جيرة وصداقات، تجارب الحياة المدرسية، وشيئا من الروح الحجازية.
- اللغة العربية لغتك الثانية، كيف تعيشين تجربة اختيار العربية على مستوى الحياة؟
+ لم يكن انحيازي للغة العربية مرتبطا باختيار ما، وإنما تشكل بها لساني منذ الطفولة. كما أن انصباب تركيزي في مجال اللغات على مستوى العمل والحياة لم يكن بدوره اختيارا بحد ذاته. الشيء الوحيد الذي اخترتهُ هو أنني استثمرتُ كلَّ الفرص القليلة التي أتيحت لي، باعتباري امرأة أجنبية في محيط ثقافي محدود، وحاولتُ توجيهها وتعزيزها بالجُهد والمثابرة. ولم أتمكن من الإنتاج في مجال اللغة إلا بعدما عدت إلى تركيا.
- ترجمتِ العديد من النصوص، من بينها «النبي» لجبران خليل جبران، و«كتاب التوّابين» لابن قدامة المقدسي، و«رسالة طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، ما الذي تحمله ترجمة الأعمال الأدبية العربية للقارئ التركي؟
+ أستأذن بالاقتباس من إجابتي في حوار آخر أجري معي سابقا: عندما أترجم عملا أدبيا من اللغة العربية إلى التركية، أنقل من يمين الصفحة إلى يسارها ماضيا وحاضرا ومستقبلا؛ أنقل تاريخا وجغرافيا ومقتطفات من رؤية أصحاب اللغة وتحركاتهم. وذاك ما يمكن أن تحمله ترجمة الأعمال العربية لقرائها في تركيا.
- ما المعايير التي تقود اختياراتك على مستوى الأعمال المترجمة؟
+ فِعلُ الاختيار يرتبط، على مستوى تجربتي الشخصية، باختيار الناشر الذي أترجم له، خصوصا إذا كنتُ أترجم مقابل أجرة. ويستند اختيار الناشر على خطه التحريري وعلى مصادر ما يصدره من أعمال، محلية كانت أو أجنبية. والمعيار الأساس هو الجودة. أما قياس الجودة وتقييمه فالصواب فيه وعدم الصواب يعتمدان على جودتي أنا كقارئة ومحللة. وفي كلتا الحالتين (جودة الناشر وجودتي)، يظل أمر الاختيار نسبيا، وذاك يجعل المعيار عنصرا ديناميكيا يتحرك ويتغير وليس ثابتا قابلا لتكرار التطبيق. أما النصوص الشعرية المنفردة، التي ترجمتُها حتى الآن، فمعظمها كان من اختياري، وهذا الاختيار ينبع من تقديري للنص كعمل أدبي. ولو عدنا للحديث عن المعيار، هنا أيضا يتجلى دَوري وجودتي كقارئة ومحللة.
- هل يمكنك تقريب القارئ من طقوسك على مستوى الترجمة؟
+ أظن أن عملية الترجمة أكبر من كونها طقوسا، بل إنها تتطلب جُهدا كبيرا على مستوى التحليل والبحث. تحليل النص والبحث في تفاصيله عن معنى أو معلومة أو خلفية، وهذه خطوات لا يمكن أداؤها حق الأداء إلا بالمزيد من القراءة عن مادة النص الذي أمامنا، وذلك ما يشير إليه الناقد الفرنسي أنطوان برمان في كتابه «نحو نقد الترجمة»، إذ يتحدث عن ضرورة إسناد فعل الترجمة إلى ما يسميه «قراءات موازية» التي بإمكانها أن تساعد على فهم النص المراد ترجمته أو كتابته، واستيعاب الظروف المحيطة به، مضيفا أن أدوات الترجمة لا تنحصر في القواميس اللغوية، بل تتعداها بالضرورة إلى هذه النصوص الموازية للنص الأساسي. وبعد القراءة تأتي الكتابة، أي إعادة كتابة النص بلغة أخرى، وتلك عملية ذات أبعاد عديدة (لغوية- عصبية واجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية) يختصُّ بدراستها وتحليلها المجالُ الأكاديمي الذي أعمل فيه والذي يتجلى في دراسات الترجمة. وإذا عُدنا إلى «طقوسي» الشخصية في مجال الترجمة، فهي تقوم على عملية مفاوضة بين المضمون والتعبير/الأسلوب، وأحاول من خلال ذلك أن أنشئ نصوصا عبر لغة أخرى.
- في نظرك ما أهم الصعوبات التي قد تشوش على هذه الطقوس؟
+ أظن أن أهم الصعوبات تتجلى في عُمر النص المتَرجَم، حيث قد تحدث فجوات بين الاستخدامات المفهومية للكلمات مع مرور الزمن. كما نجد تنوع اللهجات العربية، وبالأخص إذا كانت الترجمة سمعية- بصرية.
- هل تهمُّ الصعوبات نفسها حالةَ الاشتغال على ترجمة نصوص مخطوطة، كما حدث في مغامرتك في نقل «طوق الحمامة» لا بن حزم الأندلسي إلى التركية؟
+ أظن أن الأمر هنا أصعب، وذلك بسبب تنوع ظروف كتابة المخطوطات ونَسْخها، واختلافها على مستوى سهولة قراءة خطوطها، وتعدد النسخ المتوفرة منها وتفاوت تلك النسخ من حيث الأهمية، والفروقات الواردة بينها. واقتضتْ مني هذه الصعوبات، في حالة ترجمة «طوق الحمامة»، الاستعانةَ، من جهة، بالنصوص المحاذية التي تتلاقى حول المخطوط، ومن بينها تعليقات الناسخ والطبعات المحقَّقة والترجمتان السابقتان على ترجمتي، ومن جهة ثانية، اللجوءَ إلى النصوص الموازية، المتجلية، على سبيل المثال، في السياق الجغرافي والتاريخي لما يُروى في رسالة «طوق الحمامة».
- أصدرتِ، قبل أسابيع، دراسة علمية عن وضعية الترجمة من التركية إلى العربية تحت عنوان «مسح لما نعرفه.. الترجمة الأدبية من التركية إلى العربية بين عامي 1923 و2005». كيف ترين خصوصيات هذه الوضعية؟
+ تناولتُ في هذه الدراسة الخطوط العريضة لتدفق الترجمة الأدبية من التركية إلى العربية بين عامي 1923 و2005 بناءً على كتالوج للأعمال الأدبية المترجمة التي تم نشرها في هذه الفترة. وكان الهدف من هذه الدراسة هو فهم طبيعة أنواع الأعمال الأدبية المترجَمة التي تحضر بشكل كبير عندما يكون للنظام المضيف تاريخ مضطرب مع نظام المصدر. وتتجلى عوامل الاضطراب، في حالة تركيا والشرق الأوسط العربي، في سلسلة من الخلافات الأيديولوجية والسياسية. ويُظهر التحليل أن الترجمة من التركية إلى العربية استمرت رغم الحقد التاريخي بين تركيا والعرب. وللإشارة، فإن حضور الترجمة من التركية إلى العربية تعززَ بشكل كبير ابتداء من سنة 2005، مع إطلاق وزارة الثقافة والسياحة التركية لبرنامج التعريف بالأدب التركي في الخارج، وهو يسعى إلى تشجيع ترجمة الأعمال الأدبية التركية إلى لغات العالم، بما فيها اللغة العربية، وذلك عبر تقديم الدعم لدور النشر الأجنبية المتواجدة خارج تركيا. كما يجب التذكير بأهمية الدور الذي تلعبه الترجمة السمعية- البصرية من خلال دبلجة الدراما التركية باللغة العربية.
- أنتِ أيضا شاعرة. كيف تدبرين العلاقة بين مشروعك الإبداعي ومشروعك على مستوى الترجمة؟
+ أظن أن المشروعين يتسمان بالتكامل وبأفقهما المشترَك. ذلك لأن الابداع لا يخلق من عدم.
- تعرف عدد من الدول الأوربية تزايد حدة خطاب الكراهية، ما الذي يمكن أن تقدمه الترجمة لتجاوز هذا الوضع؟
+ يمكن للترجمة، إذا تم القيام بها بوعي وضمير وبمهنية، أن تحدّ من المركزية الأوروبية وتكسر الثنائية المنشأة بين المركز والمحيط.
«المصنف في الحجاج» لشايم بيرلمان:
هكذا ترجمت «المصنف في الحجاج» ولهذه الأسباب
نجري الحوار الآتي مع البلاغي والمترجم المغربي محمد الولي بمناسبة صدور ترجمته لـ«المصنف في الحجاج» الصادر هذه السنة عن «دار الكتب الجديدة» ببيروت. واعتاد القارئ العربي على الترجمات المفيدة التي يقدمها محمد الولي: بنية اللغة الشعرية، الكلام السامي، وكتب أخرى أفادت الباحثين أيما إفادة، هنا حوار معه.
حاوره: محمود عبد الغني
- حملت السفينة القادمة من بيروت إلى المعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط كتاباً كبيراً قمت بترجمته عنوانه «المصنّف في الحجاج» لشايم بيرلمان. قدّم هذا الكتاب للقارئ المغربي..
+ لقي نشر كتاب “المصنف في الحجاج”، الذي عُرض للبيع أول مرة في معرض الرباط الدولي يونيو 2023، إقبالا مثيرا من قبل القراء. إن هذا الكتاب، الذي انتظره القراء والمهتمون منذ أكثر من ست سنوات، لمؤلفيه شايم بيرلمان ولوسي أولبريخت تيتيكا، يحتل مرتبة مهمة في تاريخ النظرية الحجاجية. نشر أول مرة بالفرنسية سنة 1958، وتمت ترجمته إلى كثير من اللغات العالمية، آخرها الترجمة العربية، عن دار الكتاب الجديد البيروتية.
- أهمية الكتاب تكمن في أنه من تأليف أب النظرية الحجاجية المعاصرة..
+ لا شك أن بيرلمان يعتبر أب النظرية الحجاجية المعاصرة، وهو يحتل المحطة الثالثة في تاريخ هذا العلم. إن مدشن هذا العلم هو بكل تأكيد أرسطو طاليس بفضل كتابيه “الخطابة” و”الطوبيقا”. إنها، إذن، المحطة الأولى في تاريخ هذه المعرفة. وبعد أرسطو نجد أن أهم من استأنف السير في الطريق نفسها خطيب روما الأشهر: شِيشرُونْ، وذلك بفضل مجموعة من أعماله في فن الخطابة. ولعل أشهر تلك الأعمال ثلاثيته De l’orateur. كان شيشرون أهم علماء الخطابة في العصر اللاتيني بأكمله. أعتقد أنه بعد شيشرون مالت الخطابة إلى الاضمحلال، ولعل ذلك الاضمحلال هو الذي أدى بها إلى أن تحتفظ بحياتها في البلاغة الشعرية أو بلاغة المحسنات.
المحطة الثالثة هي التي يمثلها شايم بيرلمان. والواقع أن بيرلمان عاد بالبلاغة إلى جوهرها الحجاجي الأرسطي. إلا أن بيرلمان، وبفضل مصنفه هذا، أخرج النظرية الحجاجية من إطارها السياسي الضيق الذي قيدها بالسياقات السياسية والشفوية والعامية. مع بيرلمان تم توسيع البلاغة لكي تعود إلى أصلها، أي إلى الخطابة. إلا أن الخطابة هنا لم تعد مرشد عمل الخطباء، أي صناعة، بل أصبحت نظرية لتحليل كل أجناس الخطاب الذي لا يجد اليقين منفذا إليه، وكل خطاب يكون له هدف الإقناع وتغيير الأحوال. إن خطابة بيرلمان خطابة توسع دائرة الجدل في إطارها. ذلك الذي يتخذ له مخاطبا هو المستمع الكلي. أي المستمع الذي فطر بالعقل لا الأهواء والنزوعات. لذلك تردد بيرلمان هل يسميها خطابة أم جدلا. الخطابة يلعب فيها الخطيب والمخاطب دورا مهما، إن مستمعه مستمع خاص، في حين أن المستمع في الجدل يتراجع إلى الوراء ويتقنع بقناع المستمع الكلي، الفلسفي إذا جاز القول. بيرلمان ينزع إلى بناء صرح نظرية لتحليل كل أجناس الخطاب التي يخيب فيها اليقين العلمي والرياضي ويخفق. إنه مجال الإنساني والعاطفي والقيمي الملتبس.
- قل لنا كيف ترجمته، ما خطوات العمل الأولى، وما أدواتك أيها المترجم؟ فالكتاب ضخم وله أهمية تاريخية
+ أقدمت على ترجمة الكتاب بسبب أهميته القصوى، ونظرا لضخامة العمل ولأهميته التاريخية. فحينما عزمت على ترجمته، طلبت رخصة من زوجتي لتأذن لي بترك البيت والالتحاق ببيتنا الثانوي في الرباط. هناك اعتكفت وحيدا، لا تحيط بي إلا الكتب والمعاجم وقليل من التواصل الخارجي. اختليت لمدة ثلاثة أشهر كاملة. كنت أنهض صباحا أجهز فطوري بيدي وأتناوله وأنا واقف في المطبخ. حوالي الثامنة والنصف أو التاسعة أكون جاهزا. أمامي المصنف الفرنسي والترجمة الإسبانية في المرآة. أمضي حوالي أربع ساعات عمل بدون انقطاع. بعدها كنت أخرح للمشي لمدة ساعة. كنت أستقل طريقا صاعدة وهابطة. كنت أتعمد ذلك التعب، بعد حوالي ساعة أعود إلى البيت أستحم وأغير ملابسي وأجهز وجبتي بيدي. كانت وجبات بسيطة، بل فيها بعض التقشف المصطنع والمتعمد. كنت أشتهي الحياة البسيطة. بعد الغداء كنت أستأنف العمل. كان الزمن منفتحا أمامي. كنت أمير الوقت أطلبه فيطيع. لم يكن عندي من وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي غير الأنترنيت الذي احتللته باستغلال خط أحد الجيران. كنت أنزعج حينما تسكت تلك الجارة المراهقة جهازها فتحرمني من الأنترنيت. وحينما تعيد تشغيلها كان حاسوبي يخبرني بعبارته تراااانْ. هكذا كنت أتسلل إلى بعض المعاجم التي لم تكن في بيتي. كنت مروضا، بل كنت أتمرن على ترويض الكلمات وتعلم اللغات العربية والفرنسية والإسبانية، بل وكنت أتهجى البرتغالية التي ترجمت المصنف، كما كنت أتهجى الإنجليزية. كنت أشتهي العربية، وأعشقها وما أزال. فحينما أنهي فقرة، أدير ظهري للأصل الفرنسي وأتصنع جهله وأقرأ الترجمة العربية. إذا راقتني أبتهج وأتابع. كانت استشاراتي قليلة في الحقيقة في تلك الفترة الأول. كنت أشتغل هكذا تقريبا باستراحات متقطعة. حينما يحل المساء، حوالي الثامنة والتاسعة، كنت أحس بالتعب فأنصرف للنوم باكرا. أمضيت هكذا ثلاثة أشهر كاملة. كذلك خططت ثلاثة أشهر وأنتهي من إعداد النسخة الغفل. وهي النسخة التي ينبغي لاحقا إعدادها للمراجعات التي لا تنتهي. بعد ثلاثة أشهر انتهيت من النسخة الأصلية المخطوطة والتي سأراجعها أعتقد أكثر من تسع مرات. نعم تسع مرات.
المراجعات هي العمل المضنى حقا. كيف يمكن أن تتحكم في قطيع أليف يتكون من مئات المصطلحات، وكيف تضع لكل رأس اسما لا تنساه أبدا وتتعرف عليه بالاسم في كل مرة تصادفه. تلك كانت العملية القاسية: ضبط المصطلح.
لماذا اخترت هذا المصنف البلاغي الضخم، من بين مئات الكتب في الحجاج والبلاغة الجديدة؟
بطبيعة الحال اخترت المصنف لأنه الأشمل، وبسبب السبق التاريخي والفعالية العلمية والاكتناز المعرفي، ولكن أيضا بسبب موضوعه وأسلوبه الناصع. ولكني اخترته أيضا لأنه هو صاحب نفوذ قوي في البلاغة الغربية المعاصرة. أقصد إلى البلاغة الحجاجية لا المحسناتية أو الشعرية. لا أعرف كتابا يمكن أن يعوضه. بل إن تأثيره وسط المعاصرين لا يضاهى. إن إشعاعه العالمي لا يقارن. أقول الإشعاع العلمي. هذا على الرغم من أن بيرلمان محافظ من الناحية الإيديولوجية. إنه يدعي أن اللوغوس أو العلم مهده هو الغرب لا غير. بل أحيانا لا تفوته الفرصة للمز والغمز المتستر ضد الإسلام. بل إن زوجته، فيلا بيرلمان، من عتاة الصهيونية.
ما هو التلقي الذي تتوقعه للكتاب؟
نعم أتوقع تلقيا مثيرا للمصنف. لا شك أن أهمية الكتاب في التقاليد الغربية مثيرة جدا. كل الذين انبروا للكتابة في الحجاج يبدأون الكلام به. وكل الذين كتبوا في الحجاج انتقدوه وأحيانا انتقادات قاسية، من قبيل انتقاد كريسْتيَانْ بلَانْتانْ ومانْويلْ أتيِينْثَا. إن كتابا من هذا العيار ينبغي أن يكون في العربية الأساس المكين لتربية الخطاب الحجاجي. بطبيعة الحال يمكن أن نتخيل الأسوأ، وهو تجاهل هذه الترجمة. ولكن هذا التجاهل ليس حجة ضد المترجم. إن المترجم يترقب فتح نقاش ليس بيني وبين المفكرين العرب بل بين كل المعنيين بالحجاج. إن الكتاب بعد نشره لم يعد ملكا لي. وأنا لن أدافع عنه إلا كما يمكن أن أدافع عن كتب غيري.
ما هي مشاريعك القادمة؟
المشروع المستقبلي. قبل أيام اتفقت مع الصديق الباحث اللساني الكبير حنون مبارك على التعاون لترجمة واحدة من تحف الفكر البلاغي الغربي. إنها ثلاثية شيشرون De l’orateur إنها من روائع الفكر البلاغي والخطابي في الغرب. إن الحديث عن تجديد الفكر البلاغي في العالم العربي بدون هضم مثل هذه الصروح يبدو لي عملا مستهترا، بل نزقا.
«ملجأ الزمن» لغيورغي غوسبودينوف
الفائزة بجائزة بوكر الدولية للرواية سنة 2023
جورجي غوسبودينوف كاتب بلغاري (من مواليد 1968 في يامبول). شاعر وروائي وكاتب قصة، كتب للمسرح والقصص المصورة والسينما. كثيراً ما ترجمت أعماله إلى لغات أجنبية وصلت إلى أربعين لغة. يعيش غوسبودينوف ويعمل في صوفيا. وصفته صحيفة «روبوبليكا» الإيطالية بأنه «بروست القادم من الشرق».
قبل فوزه بجائزة البوكر البريطانية عن روايته «ملجأ الزمن»، عرف برواية أخرى عنوانها «الرواية الطبيعية». وهي رواية قصيرة تقع في 192 صفحة، لكنها تحتوي على أكثر بكثير مما هو مطلوب عادة لحشو رواية. إنها قصة رجل ينفصل عن زوجته – وقططه، أراد أن يعيش بضعة أيام متشردا حتى يتمكن من سرد قصة رجل، لكتابة رواية بطلها متشرد، اختار هو نفسه أن يصبح متشردا.
فازت رواية «ملجأ الزمن» سنة 2023، في لندن، بجائزة بوكر الدولية التي تكافئ سنويا أفضل عمل روائي مترجم إلى اللغة الإنجليزية. وإلى جانب الشهرة والمكانة اللتين يحظى بهما الفائز بهذه الجائزة المرموقة، تمنح اللجنة، أيضا، الروائي جائزة مالية يتقاسمها مناصفة مع المترجم، وذلك في مسعى منها لتأكيد الدور الريادي للمترجمين في هذا المجال.
وبذلك حصل غوسبودينوف، الذي يعد من الكتاب البلغاريين الأكثر ترجمة وحصولًا على جوائز دولية وأحد الأصوات الرائدة في الأدب الأوروبي المعاصر، هو وأنجيلا رودل التي ترجمت روايته إلى الإنجليزية، على مكافأة مالية قدرها 50 ألف جنيه إسترليني يتقاسمانها مناصفة.
تُرجمت رواية «ملجأ الزمن» إلى لغات عدّة، وصدرت بالفرنسية عام 2021 عن دار «غاليمار» بعنوان «بلد الماضي». تنقل الرواية القارئ إلى «عيادة للماضي» مخصّصة للمصابين بمرض ألزهايمر.
وتنقسم هذه العيادة إلى طوابق، كل منها مصمم بأدق التفاصيل لنقل المرضى مرحلة زمنية من الماضي هي عبارة عن عقد من الزمن. وبذلك، فإن كل طابق من هذه العيادة يأخذ أولئك الذين فقدوا ذكرياتهم في رحلة إلى الماضي.
لكن، حسب الرواية، بدلاً من المصابين بمرض ألزهايمر، تشهد هذه العيادة تدفق أشخاص أصحاء يريدون الهرب من أهوال الحياة العصرية، لتندلع بذلك معركة بين الماضي والحاضر.
وأشادت رئيسة لجنة التحكيم، الكاتبة الفرنسية المغربية ليلى سليماني، بهذه الرواية التي ترى أنها «رائعة مليئة بالسخرية والحزن». وأضافت السليماني أن هذه الرواية عمل عميق يتناول قضية معاصرة جداً: ماذا يحدث عندما نخسر ذكرياتنا؟ وشددت سليماني على أن «المترجمة أنجيلا رودل تمكنت ببراعة من نقل أسلوب المؤلف ولغته».
وقال محكمو الجائزة، في بيان مشترك، إن أعمال الروائي البلغاري تعد جزءا من تقاليد شرق أوروبا الأدبية التي تشمل أدب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا، واليوغسلافيين دوبرافكا أوغريشيتش ودانيلو كي، وأضافوا «إنها مرحلة جديدة من الأسئلة القديمة التي تناقش خطر الذاكرة الانتقائية، ووراثة الصدمات، وكيف يمكن للحنين أن يسيطر على المجتمع».
وأضاف المحكّمون القول إن أدب غوسبودينوف «يجبرنا على التساؤل عن مفاهيمنا للهوية: ليس فقط القومية والفردية والمجتمعية، ولكن أيضا التاريخية والزمنية.. وإلى أي مدى نعيد تشكيل الماضي ليناسب حاضرنا ومستقبلنا؟».
وبالإضافة إلى الحدود التي تقسم الدول، رأى المحكّمون، في بيانهم، أن الوقت والذاكرة هما أيضا أشكال مختلفة من الحدود، متسائلين كيف يقرر الأفراد، والأمم، وحتى القارات، ما يجب تذكره، والذي يجب نسيانه ومفهوم الوقت.
تتعامل روايات غوسبودينوف بشكل عام مع ذاكرة الماضي في أوروبا الشرقية الحديثة، والقلق والحزن الإنساني المعاصر في أوروبا والعالم، لكنها لا تكتفي بالتوغل في عمق الإنسان، بل تناقش ما هو أبعد وتخلق تعاطفاً لا يركز على الإنسان فحسب.
يتميز أسلوب غوسبودينوف الأدبي بكونه شاعرياً وفلسفياً، لكنه مع ذلك مفهوم مضحك ويثير السخرية أحياناً.
وتحدث الروائي البلغاري لموقع الجائزة عن مخاطر الشعبوية في أوروبا وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والبلقان، مشيرا إلى شعوره بأن شيئاً ما انحرف في ساعات الزمن.
وتُمنح جائزة البوكر الدولية (التي تأسست عام 2005) كل عام لأفضل عمل مترجم إلى اللغة الإنجليزية ومنشور في بريطانيا أو أيرلندا، وتختلف عن جائزة بوكر الأقدم والأكثر شهرة (التي تأسست عام 1969) والتي تُمنح للروايات المكتوبة في الأصل باللغة الإنجليزية، لكنها تأتي بالقيمة المالية نفسها، وساعدت في تحويل بعض المؤلفين إلى نجوم.
ومن الروائيين العرب فازت الروائية العُمانية جوخة الحارثي بهذه الجائزة عام 2019 عن روايتها «سيدات القمر» التي تصف مرحلة مهمة من تاريخ سلطنة عُمان، لتكون بذلك أول روائية عربية تفوز بهذه الجائزة.
الاحتفاء بالطبيعة وتشكيل الصورة الفنية في «صهيل الريف» لأحمد بن شريف
محمد المسعودي
كيف يتمثل الاحتفاء بالطبيعة في ديوان «صهيل الريف»؟ وكيف يعمل هذا البعد الدلالي على تشكيل الصورة الفنية في نصوص الديوان؟ وكيف يسهم في بناء متخيله الشعري؟ وكيف يتمكن من تجسيد رؤى الشاعر لما يجري حوله؟
من هذه الأسئلة سننطلق لقراءة المجموعة الشعرية الأولى للأديب المغربي- ابن الحسيمة- أحمد بن شريف، وهي عمله الإبداعي الرابع بعد مجموعتين قصصيتين: «الفئران المكعبة» و»شموس طنجة» ورواية: «قلاع طريس». وإن كان الأديب قد بدأ، مثله مثل عدد من أدباء جيل الثمانينات، شاعرا، فإن الكتابة السردية أخذته إلى فتونها وجنونها، ولكنه، على الرغم من ذلك، ظل محافظا على نزغة الشعر ثاوية بين أعطاف أعماله السردية، وها هو يؤوب إلى الشعر مُخرجا باكورته الأولى إلى القراء ليطلعوا على تجربته في كتابة القصيدة.
وعودة إلى محور قراءتنا في الديوان، ننطلق من أمثلة نجلي من خلالها كيفية احتفاء الشاعر بالطبيعة، محاولين إبراز كيفية إسهام هذا البعد في تشكيل الصورة الفنية في نصوص الديوان، يقول الشاعر:
.. «هناك، نرتشف نخب السماء التي عكست لوننا.
يقرأ طائر الوروار رسائل بديعة،
في رسم جديد للعنة الحقول.
نمضي ممهورين بلون زهر اللوز،
وعلى مرمى القبائل تنتحب السواقي.
نحن الآن موال ينزل إلى القرى..
يفتش عن مقهى الملوك..
نمتطي معا صهوات الزمن.
نبيت الليل قابضين على الجمر.
في المرافئ الزمنية نقيم أعراس زهر اللوز.
وترسم قرى الريف، وجنات ومآقي لأمراء الصيد البري،
واعدة بنشر السنابل في الحقول..» (صهيل الريف، ص. 11)
بهذه الغنائية العذبة، التي تتسرب من الاحتفاء بالطبيعة واتخاذها منطلقا لبناء المتخيل الشعري، يشكل أحمد بن شريف صوره الفنية. وهكذا نرى في المقطع كيف تحضر الطبيعة بثقلها: السماء-طائر الوروار-الحقول-زهر اللوز-السواقي-السنابل.. وغيرها من معطيات ترتبط بهذا البعد. وهكذا نرى هذه العناصر تؤثث لشعرية تحتفي بالحياة، بأعراس الطبيعة (أعراس زهر اللوز)، وبانتشار السنابل في الحقول. وترتبط ببشارة وأمل في المستقبل. ومن خلال ما يشكل عناصر الصورة في مجازاتها الشعرية المحلقة نرى الشاعر يعبر عن لحظتين:
-عن ماض عرف لعنة الحقول، وعن بشر قابض على الجمر، وعن أناس مترحلين ينزلون القرى يحملون موالهم المحرض، لتستفيق هذه القرى وتغير واقعها، والحلم بالآتي نصب أعينها.
-عن زمن لاحق، هو حلم بوعد آت بالاخضرار والازدهار والفرح.
وبهذه الشاكلة تنبني الرؤية الشعرية عن طريق هذا التشكيل الفني الذي يستمد مقوماته من الطبيعة وعوالمها، ويوظفها توظيفا ينبني على التضاد والتعارض ليجسد اللحظتين الزمنيتين اللتين يصورهما الشاعر.
وفي مقتطف آخر دال من إحدى قصائد ديوانه يقول الشاعر:
.. «صوب نهايات الشفق المضمخ
بلون الصخر القروي أمضي كي أحبك
لست حافظا لورق التوت المعلق
بين الوادي والقصيدة..
لون الشجر الأبي الذي أحمله
في مقلتي يستودعني سحرا
وأنت.. ترقصين على إيقاع المطر
يناديك الصنوبر والوجد والمدى
المعلق في أهداب الجبال التي
نحبها..» (صهيل الريف، ص. 22)
هكذا يقترن حب المرأة بحب الطبيعة في هذا النص، وهكذا يتحد لون الشفق الممتزج بلون الصخر في القرى بفورة الهوى المتقد في الذات، وهكذا يمتزج السحران: سحر الحب وسحر ألوان الشجر، ورقص المرأة بإيقاع المطر، ونداء الصنوبر والمدى. وبهذه الكيفية يصير الاحتفاء بالحب توحدا بالطبيعة وتجذرا فيها. ومن هنا نرى كيف يتشكل متخيل القصيدة انطلاقا من توظيف عناصر الطبيعة بما يخدم رؤية الشاعر، وبما يعبر عن ذاته، وعن رؤيته للحب وشعوره به. وبهذا، فإن الاحتفاء، هنا، بالطبيعة هو احتفاء بأسمى قيمة في الحياة: المحبة.
وفي نص آخر، يقول أحمد بن شريف:
«مساءات مارس يتلبسها
نور القمر الأثيل..
وفي انتظار حقول القمح،
ترقص السنابل..
آهات الأودية تلج البيوت
مهدهدة الطفل المرتجف فينا..
ينهض الحجل من وهاد الغابات
ناشرا الأفراح في الأرض..
يطير الحجل في البراري مساء
فتطير معه قلوب الصبايا..
غير عابئين،
بالمطر والريح، نمضي ثم نمضي..
حاملين ريش العصافير..
متطلعين لشمس مارس..» (صهيل الريف، ص. 45- 46)
يحتفي النص بالفرح الذي يعم القرى في فصل الربيع، شهر مارس، الذي يحمل ملامح التغير في الطبيعة وفي أحاسيس الناس ومشاعرهم. إن القصيدة تسترجع لحظة من لحظات الطفولة، وتلك الهدهدة المرتجفة في الوجدان، وذلك الخفقان في قلوب الصبايا الحالمات مع أحلام الطبيعة برقص السنابل، وفرح الحجل، ونور القمر. ومن خلال هذه العناصر وغيرها من مكونات النص يشكل الشاعر صورته الكلية التي تزينها صور جزئية صغرى، وتجعل منها لوحة فنية معبرة عن احتفائه بالتحول في الطبيعة، وفي تفاعل الإنسان معها، فها هنا نجد الفرح يجعل الشباب والصبايا غير عابئين بمطر مارس وريحه، وهم يعيشون لحظة تبدل الطبيعة وتجدد الحياة فيها، فيطيرون مع طيران الحجل في الغابات ويحملون ريش العصافير منتظرين شمس مارس الدافئة الباعثة للحياة. ومن خلال ما سبق نلمس كيف يوظف الشاعر الطبيعة بما يخدم رؤيته الشعرية، وبما يعبر عن ذاته.
ويصور الشاعر، في نص آخر، مشهد رحيل العصافير، وهجرتها بعد إقبال الخريف، وتحول الطبيعة نحو فصل آخر يعرف مواتها وانكماشها. وعلى الرغم من أن هذا المقطع يتحدث عن زمن تمسه يد الحزن والكآبة إلا أن اهتمامه بالطبيعة واضح، واحتفاءه بالحياة جلي. يقول الشاعر:
«الأرض خرائط فارغة، تأتي على ذكرها العصافير المهاجرة..
وها هنا، يذرف السنونو الدمع، فتنهض النواعير من صمتها..
قبائل السنونو، مرتحلة، أبدا عبر لون الورد،
نازحة عن جنون شجر الرمان..
تمضي مسيجة بالأودية وأزهار الدفلى.
أسأل الروح العاشقة عن قلق الصلصال،
عساي، أنهض وأرسم أفقا لأرض،
لا تنهض إلا لتسقط..» (صهيل الريف، ص. 58)
هكذا يتمثل الشاعر تحولات الأرض التي تنهض ثم تسقط، وهي تشهد تحولات الطبيعة وتحولات الحياة، فالشاعر، أيضا، يتغيا التحرر من قلق الصلصال ليتحرر ويرسم أفقا للأمل والحياة. وبهذه الكيفية نلاحظ أن الصور الشعرية تعبر عن رؤى الذات الشاعرة، وعن المكان (الريف وقراه)، وعن الفضاء والبيئة التي يعشقها الشاعر ويعشق كائناتها فتصير جزءا لا يمكن الاستغناء عنه في بناء متخيله وإيصال مراميه.
وقبل أن نختم هذه القراءة في ديوان «صهيل الريف» نقف عند هذا المقطع الأخير المأخوذ من آخر قصيدة من قصائد الكتاب، يقول أحمد بن شريف:
«تمر السحب مسرعة ونحن حيارى،
راجين الله أن تدنو السماء منا
أو تنكسر مرايا قدام القرى…
نبتعد عن أسمائنا، لترحل سحناتنا..
نحو أقبية القصور الطينية.
نرسم أعشاش الطيور التي
أمعنا في حبها،
فيميد الليل عن سماواته المنهكة
يخرج النهار جريحا، عند شروق الشمس..
فينزل الغمام إلى القرى،
نشيدا وفاكهة» (صهيل الريف، ص. 74)
هكذا تحضر الطبيعة، والاحتفاء بها إلى آخر مشهد، وإلى جميع الصور التي تشكله، في الديوان. وهكذا، أيضا، تتصادى هذه الصور وتتقاطع في أبعادها ورؤاها مع ما رأيناه سابقا. فها هنا وعد بارتفاع نشيد بين القرى احتفاء بالخصب والنماء، وتطلع إلى شروق شمس جديدة تخرج من جرح النهار، وهنا أمل في حياة تتجدد وليل يميد ويتراجع. وبهذه الكيفية نرى مدى استمداد الشاعر من الطبيعة ومدى ارتباطه بها في تشكيل متخيله الشعري وبناء رؤاه الفنية وأبعادها الدلالية.
انطلاقا من كل ما سبق نؤكد أن الشاعر أحمد بن شريف شكل عناصر متخيله، وبنى عناصر صوره، محتفيا بالطبيعة، متخذا منها منطلقا للتعبير عن ذاته، وعن بيئته، وعن تفاعله مع ما حوله. وهكذا كانت شعريته هذه احتفاء بالحياة، واحتفاء بالطبيعة وبجمال الريف وتحولات الحياة في القرى وما يحيط بها. وبهذه الكيفية صنع الشاعر عوالمه الشعرية العذبة على منوال يتقاطع فيه الرومانسي بالواقعي، والذاتي بالموضوعي، في أفق محبة الحياة ومحبة الجمال.
++++++
*أحمد بن شريف، صهيل الريف، منشورات أبعاد متوسطية، طنجة، 2020.