يعتبر موسم توزيع الجوائز السنوية في «هوليود» أشبه بموسم تزاوج القطط أو الحيوانات البرية، حيث تثير «فرمونات» التماثيل الذهبية اللامعة شهية المرشحات والمرشحين، ليحتد الصراع بينهم حول الظفر بأكثر الجوائز فخامة في عالم الفن السابع.
لطالما حطم النقل المباشر لحفلات «الأوسكار» و«الجولدن كَلوب» مشاهدات قياسية على التلفزيون الأمريكي. غير أن الوضع تغير في السنوات الأخيرة، بعد حملات المقاطعة الواسعة التي شنها الجمهور اليميني المحافظ على مثل هذه التظاهرات الفنية، معللا قراره بالانحراف الأخلاقي الخطير الذي أصبحت تعاني منه «هوليود».
يعتبر المواطنون المنتمون للحزب الجمهوري، مثلا، أن حفلات توزيع الجوائز الفنية أصبحت مسيسة بغرض خدمة أجندات أيديولوجية مسيئة لقيم الدين والعائلة. تجدر الإشارة إلى أن مفهوم اليمينية الأمريكية المحافظة قد يختلف جذريا عن مفهومها لدى المغاربة على سبيل المثال. فالكائن الأمريكي المحافظ يحتسي الخمور ويمارس حميميته خارج إطار الزواج، بل وقد تكون لديه ميول جنسية مغايرة، الأمر الذي قد يكون مربكا بالنسبة لأشخاص من خلفية مسلمة، وكما يقول أصدقاؤنا المصريون «يمينية مين والناس نايمين».
المتابع لفعاليات موسم جوائز 2024 يلاحظ أن «هوليود» احتفت بتيمة الشر، من خلال اكتساح مسلسل «succession» أو «الخلافة» لمعظم التصنيفات، حيث حصد صناع وأبطال المسلسل، على حد سواء، حصة الأسد من الذهب الهوليودي. لا تخفى على أحد الفضائح الجنسية التي تفجرت أخيرا في «هوليود»، وما صاحبها من لغط حول مدى تورط «الريوس الكبار» من مدراء تنفيذيين ومخرجين وممثلين، في ما أصبح يعرف إعلاميا بقضية «جيفري ابستين»، الذي كان يعتبر بمثابة الصندوق الأسود للمشاهير، أو، إن صح التشبيه، فالرجل كان «حمزة مون بيبي» في نسخته الأمريكية المتحورة. وفي هذا السياق، جاء تكريم الأعمال التلفزيونية والسينمائية التي جعلت من الشر محورا لحبكتها الدرامية.
إن هذا الاحتفاء المبالغ فيه بالشخصيات والقصص الشريرة قد يكون عبارة عن رسائل مشفرة يمررها أسياد «هوليود» للجمهور. (نحن أشرار ونصنع أعمالا شريرة ثم نحتفي بها.. موتو بالسم).
قدمت لنا شركة «HBO»، الرائدة في مجال الأعمال التلفزيونية الناجحة، وعلى مدار الخمس سنوات الماضية، مسلسلا يعتبر من العلامات الفارقة في تاريخ كتابة الحوار وصناعة الصورة.
فكيف كانت «الخلافة» مقطعا عرضيا لفساد أنظمة الحكم الأمريكية؟
يتوفر هذا العمل الشيق على كل المقومات الدرامية لتراجيديا النفس الإنسانية، حيث نجد الصراع الشرس حول السلطة، وما يصاحبه من انحرافات أخلاقية كالارتشاء والتستر، والاتجار بالبشر والاغتصاب والعبودية المعاصرة. نجد، أيضا، تيمات العنف الأسري وصدمات الطفولة وقيما مشوهة للحب والروابط العائلية. إن المتابع لحلقات «الخلافة» لا يملك إلا أن يلاحظ تشابها بين فوضى «آل روي» وفوضى حمى السباق الانتخابي الأمريكي، مثلا.
تكمن عبقرية المسلسل في نمطية الشخصيات الشريرة المسطحة، أو ما يعرف بالشخصية أحادية البعد، التي تفتقر غالبا إلى العمق الروائي. شخصيات تعكس الحالة الإنسانية في جانبها المظلم بعيدا عن الرتوش الأخلاقية المزيفة.
تعكس شخصيات عائلة «روي» واقع البشر ككائنات تراجيدية تصارع من أجل البقاء. كائنات متعطشة للفتك، ومفتقرة للحب أو العطف الأبوي. لم تسع شخوص العمل من أجل التوبة أو الخلاص، ولم تقدم اعتذارا عن كونها شخصيات شريرة، بل رفضت أن تبرر لذلك أيضا، حيث نلاحظ الفخر الشديد لبطلة المسلسل كونها نتاجا لبيئة سامة. بل الأكثر من ذلك، فهي تتباهى بشرف الانتماء للقبيلة التي صنعت منها ذاك الكائن الرأسمالي البشع.
شخصيات «الخلافة» لا تعترف بتاتا بمفهوم التكفير عن الخطايا. هذا المفهوم الذي يتم حشره قسرا في العديد من الحبكات الدرامية، بغرض ترجيح كفة الخير على الشر. وهو الأمر الذي يسيء غالبا للقصة، كما حدث مع شخصية «جيمي لانستر» في لعبة «العروش». تفتقر شخصيات آل روي وشركائهم لما يعرف بالتطور الدرامي للشخصية. «النهار الأول مات المش»، حيث تابعنا، طيلة أربعة مواسم، شخصيات بمنحى شرير مستقر. قصة عائلة «روي» هي قصة الحلم الأمريكي الذي لا يعترف تاريخه سوى بالفتك.
احتفت «هوليود»، أيضا، بفيلم «أوبنهايمر»، الذي يزكي الرواية الأمريكية للأبوكاليبس الياباني. «أوبنهايمر» الذي يروج لسرديات الرجل الأبيض المنقذ، ويطبل لأساطير المركزية الغربية التي لازالت تجر العالم نحو نيران الحروب والتقتيل. من الجدير بالذكر أن كريستوفر نولان كان عبر عن استيائه، في وقت سابق، من رفض اليابان عرض فيلمه في صالاتها السينمائية. استياء نولان كان رمزا للجرأة و«السنطيحة» التي يملكها الرجل الأبيض، حين يتعلق الأمر بمآسي مستعمراته أو حروبه السابقة. تتويج آخر حصل عليه مسلسل «زهرة اللوتس البيضاء»، وهو عمل كوميدي سوداوي يصور الحياة المزدوجة لمجموعة من الأثرياء الأشرار.
لقد أصبح لزاما علينا أن ندرك حقيقة الصناعات الهوليودية الموجهة لخدمة المصالح الضيقة لمدرائها التنفيذيين. هؤلاء المسؤولون الذين تبين لاحقا أنهم مجموعة من الحمقى والمختلين نفسيا. إن تزييف الوعي العالمي حرفة هوليودية عريقة. نخشى أن نشاهد، مستقبلا، فيلما دراميا يروي قصة حزينة لجندي أمريكي شجاع مات بسكتة قلبية بعد أن قتل ألف طفل عراقي.