إعداد: محمد اليوبي
بعد رئاسته الحكومة لولايتين، بدأ حزب العدالة والتنمية يعرف تحولات عميقة على المستوى الإيديولوجي والسياسي، كانت لها انعكاسات قوية على بنيته التنظيمية، التي لم تستطع مواكبة واستيعاب هذه التحولات، ما يؤدي إلى حدوث هزات داخلية في بعض الأحيان، لكن، أخيرا، بدأت تبرز ظاهرة غير مسبوقة داخل الحزب، وهي خروج قيادات نسائية شابة بكل جرأة للتمرد على القيود التي يضعها الحزب، وهي مؤشرات دالة على أن جيلا جديدا يريد أن يجعل من «البيجيدي» حزبا سياسيا عاديا، ويريد إخراجه من جلباب حركة التوحيد والإصلاح، وعدم استغلال الدين في العمل السياسي، وكذلك ممارسة الوصاية «الأخلاقية» على الأعضاء وأفراد المجتمع، وهو ما عبرت عنه القيادية أمينة ماء العينين، والبرلمانية السابقة، اعتماد الزاهيدي، والناشطة في مواقع التواصل الاجتماعي، يسرى الميموني.
النساء داخل العدالة والتنمية
بالعودة إلى أدبيات الحزب بعدما سلمه مؤسسه عبد الكريم الخطيب إلى قادة حركة التوحيد والإصلاح المتحدرين من تنظيم الشبيبة الإسلامية، نجد قولة مشهورة للخطيب، ترددها نساء العدالة والتنمية، عندما قال «حزب العدالة والتنمية للنساء والرجال.. ونحن لا نعترف بعالم للرجال وآخر للنساء.. فعالم السياسة للجميع نساء ورجالا»، معلنا رفضه لعزل المرأة داخل حزب العدالة والتنمية، كما أن الخطيب، بعد انضمام إخوان بنكيران إلى حركته الشعبية الدستورية، كان دائما يردد أن الحزب فيه جوج رجال، هما بسيمة وخديجة، الأولى هي بسيمة حقاوي، الوزيرة السابقة للمرأة والأسرة والتضامن، والثانية هي خديجة مفيد، زوجة القيادي المقرئ الإدريسي أبو زيد التي تم إبعادها من قيادة الحزب، إثر خلافها مع مصطفى الرميد، واتهامه بالتعامل مع إدريس البصري.
إثر ذلك، قامت حركة التوحيد والإصلاح بعدة مراجعات حول المشاركة النسائية في العمل السياسي، ما مكن العديد من نساء الحركة من تبوؤ مكانة القيادة بهذا الحزب، ابتداء من الكتابات المحلية والإقليمية والجهوية والمؤتمرات الوطنية إلى العضوية في المجلس الوطني، التي انتقلت من ست نساء إلى 16 امرأة، وعضوية الأمانة العامة للحزب، حيث انتخب المؤتمر الوطني الرابع للحزب المنعقد سنة 1999 أول امرأة عضوا بقيادة الحزب، لينتخب المؤتمر الوطني الخامس 2001 امرأتين بالأمانة العامة، وليحافظ المؤتمر الوطني السادس 2008 أيضا على عضوية امرأتين بالأمانة العامة، لينتقل العدد إلى أربع نساء بالمؤتمر الوطني السابع، ثم خمس نساء في المؤتمر الوطني الثامن.
وشكل الحزب لجنة خاصة تركز الاهتمام على القضايا الخاصة بالعمل النسائي داخل الحزب وخارجه، وشكل في فبراير من سنة 2001 لجنة خاصة بقضية المرأة، اعتبرها في مرحلة أولى اللجنة الإدارية لقضايا المرأة والأسرة والتي اصطبغت بطبيعة استشارية، وتولت تمثيل الحزب في الملتقيات الوطنية والدولية ولدى الهيآت السياسية في مجال المرأة والأسرة، ثم في مرحلة ثانية في نونبر 2005 تكونت لجنة قضايا المرأة والأسرة التي اعتبرت امتدادا للجنة الأولى، مع توسيع مهامها لتشمل الجانب التأطيري، فاستحدثت ناديا للمرأة والأسرة انكب على مناقشة قضايا تمس واقع المرأة، وفي مرحلة لاحقة تشكلت اللجنة الموضوعاتية لقضايا المرأة والأسرة، إلى أن جاءت مرحلة ما بعد المؤتمر السادس، باعتبارها انطلاقة جديدة للعمل داخل الحزب وضعت العمل النسائي في هيكلته الداخلية ضمن قسم التأطير الذي يضم التنظيمات الموازية، وتوجهت الأمانة العامة نحو تنظيم نسائي مهيكل، فتأسست اللجنة المركزية للعمل النسائي سنة 2008 أوكل إليها مهمة التفكير في شكل تنظيمي يحدد ميادين الاشتغال ووضع مخططات للعمل وفق استراتيجية الحزب وبرامجه، ثم تأسيس منظمة «نساء العدالة والتنمية» التي تكلفت بتفعيل المشروع المجتمعي حزب العدالة والتنمية على مستوى الشأن النسائي، كما صادق على ذلك المجلس الوطني للحزب خلال دورته العادية التي عقدها يومي 25 و26 دجنبر 2010 ببوزنيقة، حيث عقد الحزب المؤتمر التأسيسي للمنظمة يوم 23 أكتوبر 2011.
ثورة ماء العينين والزاهدي والميموني..
خلال السنوات الأخيرة، ظهرت قيادات نسائية شابة بالحزب بصمت حضورها داخل المشهد السياسي لكنها لم تجد الطريق سالكة إلى الأجهزة القيادية للحزب، التي ظلت محتكرة من طرف نفس الوجوه النسائية المعروفة، أمثال بسيمة الحقاوي وجميلة المصلي ونزهة الوافي وسمية بنخلدون، هذا الحصار الذي فرضته القيادة على الوجوه النسائية الشابة، أشعل ثورة هادئة داخل أجهزة الحزب بدأت تخرج إلى العلن في السنوات الأخيرة بأشكال مختلفة.
أطلقت البرلمانية والقيادية المثيرة للجدل، أمينة ماء العينين، أول انتفاضة داخل الحزب استطاعت من خلالها تهديم بعض القيود التي ظل يفرضها حراس المعبد داخل الحزب وجناحه الدعوي، عندما ظهرت في شوارع العاصمة الفرنسية بملابس عصرية، وبدون حجاب، ما شكل صدمة قوية داخل الحزب، لأن الحزب يوظف الرأسمال الأخلاقي والديني في الاستثمار السياسي والانتخابي، لكن ماء العينين كرست توجها داخل الحزب يدافع عن الحياة الخاصة والحريات الفردية، وقالت، في تصريحات صحفية، إن حزب العدالة والتنمية يعاني من فقر شديد في الفضاءات التي يمكن أن تحتضن النقاش النظري والفكري من مستوى رفيع، بشكل يجعله يعيد طرح القضايا المجتمعية المستجدة وليرصد التحولات الكبيرة على ضوء مرجعيته، خاصة وأن انخراطه في تدبير الشأن العام جعله يجري مراجعات كبيرة ويتخذ قرارات وينخرط في ممارسات لم تكن له الجرأة على حسمها نظريا وأدبيا، ليصل أثرها بشكل مؤسس وواضح لكل قواعده سواء منها النضالية أو الانتخابية، وأكدت أن جزءا من قاعدة الحزب لايزال يتصور أن نقاش القوانين المتعلق بحماية الحياة الخاصة هو مؤامرة على الدين والتدين لتحويل هوية المجتمع ودفعه إلى التفسخ والانحلال، علما أن الدين لم يكن يوما نصيرا للتجسس والتعقب واقتحام الفضاءات الخاصة ما دام أصحابها اختاروا احترام المجتمع وعدم استفزازه وهو ما يفسر الشروط القاسية التي وضعها الدين نفسه لإثبات مثل هذه الوقائع حماية للمجتمع وليس انتهاكا للخلوات وتبني منطق الفضيحة والتشهير والقذف الذي حرمه الدين.
وقدمت البرلمانية السابقة، اعتماد الزاهيدي، استقالتها من حزب العدالة والتنمية، وذلك بعدما كشفت، في حوار أجرته مع «الأخبار»، حقائق مثيرة عما يجري داخل الحزب، حيث اتهمته بممارسة الاستبداد على المغاربة، مؤكدة أن الصراعات الداخلية ستفجره قريبا، وأبرزت أن التنظيم الدعوي، حركة التوحيد الإصلاح، هو الذي يصنع القرار داخل الحزب، متحدثة عن غياب الديمقراطية الداخلية، حيث يتولى التنظيم اختيار الأعضاء الذين يتولون قيادة الحزب وبالتالي التحكم في صناعة القرار، وقالت إن المشكل يكمن في عدم الانفتاح على المجتمع، والدليل على ذلك أن القيادات مازالت هي نفسها منذ سنوات، وأن الأعضاء الذين لا يمرون عبر الحركة الدعوية يبقون دائما في نفس المكان التنظيمي، ويتم التعامل معهم بنوع من الحذر.
وتحدثت الزاهيدي عن وجود علاقة ملتبسة بين الحزب والحركة، وأضافت بالقول «حان الوقت لفتح نقاش حول تحديد هذه العلاقة المغلفة بشعار الشراكة رغم أن هذه الشراكة غير واضحة، دائما نقول إن الحركة شريك للحزب، لكن ليس هناك ميثاق للشراكة مكتوب، لتحديد أين تبدأ علاقة الحزب مع الحركة وأين تنتهي، وبالتالي ليست هناك حدود لهذه الشراكة، وهو ما يخلق مشكلا داخل الحزب، وخصوصا بالنسبة للأعضاء الذين لا تربطهم أية علاقة تنظيمية بالحركة الدعوية».
وأكدت الزاهيدي أن الحزب مازال يوظف الخطاب الديني في العمل السياسي رغم وصوله إلى مراكز القرار وتدبير الشأن العام من خلال توليه الحكومة ورئاسة المجالس الجماعية، وأرجعت تشبث الحزب بالخطاب الديني لاستمرار ارتباطه بالحركة الدعوية، وقالت إن الحزب فشل في التدبير، ويحاول تبرير هذا الفشل بالبحث عن خصوم وشيطنة الآخرين، مشيرة إلى أن حزب العدالة والتنمية تحول إلى ماركة تجارية مستغلا ثقة الشعب، وجعله بعض الأعضاء مجرد علامة تجارية يتم استغلالها للوصول إلى الكراسي، لأنه بالنسبة لهم هذه العلامة التجارية هي التي تمكنهم من الفوز وليس العلاقة الوطيدة مع المواطنين والتفكير في قضاء مصالحهم وحل مشاكلهم.
وقالت البرلمانية السابقة، الملقبة بـ «حسناء البيجيدي»، إن الحزب يعرف صراعات داخلية طاحنة حول المصالح والامتيازات، وأن هذه الصراعات ستفجره قريبا، وأردفت قائلة «لا يمكن احتواء الصراعات التي يعرفها الحزب، إلى متى سيبقى التستر على هذه الصراعات، سيأتي يوم ستخرج فيه الصراعات إلى العلن، والآن بدأت تظهر الشرارات، رغم محاولات إخفاء ذلك»، وأشارت إلى أن الهدف من الحوار الداخلي هو التغطية على هذه الصراعات، مؤكدة أن الحزب يعيش أزمة حقيقية، وهذه الأزمة ستزداد تفاقما في السنة المقبلة، تزامنا مع الانتخابات.
وبعد الزاهيدي، أعلنت الناشطة يسرى الميموني، عضو حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، تقديم استقالتها من الحزب، على خلفية الهجوم القوي الذي تعرضت له، بعدما عبرت عن موقفها من التطورات الأخيرة في ملف الصحراء وتوقيع رئيس الحكومة والأمين العام للحزب على الإعلان الثلاثي بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، ووجهت الميموني رسالة إلى الكاتب الإقليمي لشبيبة وحزب العدالة والتنمية بمحلية طنجة المدينة، أعلنت من خلالها عن قرار استقالتها من الحزب، بعد سنوات من الانتماء إليه، وذكرت مجموعة من الأسباب التي دفعتها لاتخاذ القرار، من بينها أن مؤسسات الحزب لا تقبل النقد، وقالت «يصعب على أن أبقى في مؤسسة ترفض النقاش وتتجاهل النقد السياسي وتتجه نحو الشخصنة»وكشفت أن قياديا بارزا نعتها بـ «بياعة الماتش» فقط لأنها أعلنت موقفها وصدحت به ملء الفم والشفتين، «علاوة على الذباب الإلكتروني الذي يتطوع لمهاجمتي في كل موقف من كل حدب وصوب».
وتحدثت الميموني في رسالة استقالتها عن وجود انشقاق وانقسام داخل الحزب إلى تيارين، أثر على أداء الحكومة الحالية، وكشفت عن غياب الديمقراطية الداخلية، واستغلال بعض المناضلين وتحويلهم إلى «كراكيز وقطيع في سبيل التعبئة وتنمية الاقتصاد الجيبي ومصلحتهم الكرسية»، ودعت إلى تحرير الدين من القبضة السياسية، مشيرة إلى أن بعض الأفراد يستغلون الدين كي يبرروا الفساد داخل التنظيم. وأوضحت الميموني، في تصريح لـ «الأخبار»، أنها بدأت تتعرض للمضايقات منذ إبداء موقفها في قضية مصطفى الرميد، في إشارة إلى فصيحة عدم تصريحه بكاتبته لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وقالت «عوض مناقشة أفكاري، بدأ قياديون يناقشون أحمر شفاهي وطلاء أظافري وأناقتي». وأشارت هذه الناشطة التي تحظى بمتابعة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى أنها نشأت في حركة التوحيد والإصلاح الجناح الأيمن للحزب، وجمعية الرسالة جناحه الأيسر، وقالت إنها «من عائلة محافظة حافظة للقرآن، لكنها متحررة ومنفتحة على الحياة»، وشعارها «الدين هو العزلة عن الحرام لا عن الحياة»، وأضافت «انتميتُ لحزب العدالة والتنمية بطريقة تقليدية، إيمانا بمشروع الإصلاح، لكن الحزب الذي لم يستطع أن يصلح بيته الداخلي، كيف له أن يساهم في بناء بيوت خارجية».
تحولات داخل الحزب
بخصوص هذه التطورات التي يعرفها الحزب، أوضح محمد الزهراوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مراكش، في دراسة نشرها المركز الديمقراطي العربي، أنه بحكم السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي خضعت إليها الحركات الإسلامية، عرفت عدة تحولات وتغيرات على مستوى تصوراتها وبرامجها وخطابها الذي كان يفتقر إلى الوضوح والصلابة النظرية في مواجهة التحديات المعاصرة، كنتيجة طبيعية لانغماسها في كتب التراث بحثا عن أجوبة لتساؤلات الحاضر وارتمائها في أحضان أمجاد السلف. ويضيف الباحث أنه، وارتباطا بمجموعة من التحولات المعاصرة، خاصة بعد انتقالها إلى دفة الحكم، أصبحت نسبيا تصوغ برنامجها الإصلاحي بطرق عصرية وبنزعة براغماتية متعددة المستويات، منها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتتفادى التلويح بالخطابات التقليدية، كتطبيق الشريعة الإسلامية والدعوة إلى إقامة الحدود ومنع المحرمات كالخمر والميسر والربا، مقابل إنتاجها مجموعة من الخطابات والسلوكات المتناقضة والتي تتعارض مع مرجعياتها.
وفي هذا الاطار، يعتبر الباحث أن حزب العدالة والتنمية من بين الأحزاب الإسلامية القليلة في الوطن العربي التي اعتمدت في منهجها على مبدأ التدرج في الإصلاح من الداخل، حيث عرف هذا الحزب طيلة مسار اندماجه في الحياة السياسية طيلة عقدين من الزمن مجموعة من التحولات خاصة على مستوى التعاطي مع التناقضات والإكراهات المرتبطة بالانتقال من “موقع المعارضة” إلى “دفة التسيير” بما يقتضيه ذلك من اشتغال داخل فضاء سياسي مسيج بقواعد وضوابط صارمة.
وأكد الزهراوي أن الحزب خضع ولا يزال منذ نشأته لعديد من الرجات التي تراوحت بين النجاحات والإخفاقات سواء على المستوى التنظيمي أوعلى مستوى علاقته مع باقي الأطياف والمكونات الشعبية وكذلك الدولة. وأشار الباحث في دراسته إلى أن الأخيرة المتعلقة بالانتخابات التشريعية التي أجريت يوم 07 أكتوبر 2016، أفرزت مجموعة من المظاهر والتحولات على مستوى النسق الحزبي المغربي ككل، حيث انعكست التفاعلات والتجاذبات التي صاحبت تشكيل الحكومة سواء قبل إبعاد بنكيران عن رئاسة الحكومة أو خلال فترة سعد الدين العثماني على البيت الداخلي لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي بات يتجه إلى التصدع والانشقاق.