ثمن الخوف
مشكلتنا الكبيرة في المغرب هي أننا نعتقد أن الحل الوحيد لأمراضنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو إجراء التحاليل والحصول على نتائجها.
وهكذا فكل مؤسسات الدولة والمراكز العمومية تتسابق لإجراء التحاليل على أمراض البلد، وكلها تعطي نتائج تحليلاتها على شكل دراسات بالأطنان تحتل الصفحات الأولى للجرائد ونشرات الأخبار قبل أن تنسى، لكن خلال هذا الوقت فالمرض يزداد استفحالا.
والسبب هو أن نتائج التحليلات كلها تجمع على أنه لمعالجة الداء لا بد من إجراء العملية، والمريض لا يريد إجراء العملية لأنه يخاف، وكل ما يستطيع القيام به هو ركن أوراق التحاليل جنب سريره والاستمرار في أخذ المورفين لتسكين الألم.
السياسيون يعرفون أن خلاص البلد يوجد في إجراء هذه العملية لاستئصال ورم الفساد الذي يتوسع في الجسم يوما عن يوم عبر تقديم المسؤولين عن فشل المشاريع والأوراش للمحاكمة والمحاسبة، لكنهم يفضلون معالجة الحمى عِوَض معالجة التعفن الذي يسببها، متجاهلين أن الحمى مجرد عرض وليست مرضا.
والسبب في خوف السياسيين من إخضاع البلد لعملية استئصال لورم الفساد المعشش في كل القطاعات هو الجبن وافتقادهم للجرأة السياسية اللازمة في مثل هذه الحالات.
وأول المنخدعين بالسياسيين هم الصحافيون، والحال أن وظيفة الصحافي هي أن يتصدى للزيف بشكل عام، وخصوصا الزيف السياسي الذي عندما يسود يحول كل المجالات إلى “خواض” يسبح في مياهه الضحلة الجميع، بما في ذلك بعض الصحافيين الذين يعتبرهم السياسيون مجرد أفواه صالحة لكي يأكلوا بها الشوك والثوم وسائر البهارات الحارة والحلوة.
فالصحافي بنظر السياسي ليس لديه ما يخسره إذا ما غامر وتسلح بالجرأة وألقى بنفسه إلى التهلكة في فم السلطة، فيما رجل السياسة لديه الكثير مما يخسره.
في الحقيقة لا أحد يعرف لماذا يخاف السياسي عندنا من الجرأة على قول ما يعتبره الحقيقة بنفسه، ويعول على الصحافيين للقيام بهذه المهمة الخطيرة.
ورغم ذلك فالجواب سهل للغاية، وهو أن السياسيين في الغالب الأعم جبناء يحرصون على أن لا يفتحوا أفواههم إلا عند طبيب الأسنان. فهم يعرفون أن كل ما سيقولونه سيتم تسجيله عليهم في سجل محفوظ، ولذلك فهم يحرصون أشد ما يكون الحرص على علاقتهم بالسلطة، وعندما يريدون أن يعبروا عن غضبهم يفضلون أن يقوموا بتفويض مهمة “مشاغبة” هذه السلطة إلى الصحافيين المتخصصين في كل شيء.
بمعنى أن الصحافي مفروض فيه أن يقوم بمهمة “التدبير المفوض للغضب” الذي يشعر به السياسي تجاه السلطة، أي عليه أن يكون ذلك البوق الذي يقوم بتكبير الصوت الذي يهمس به السياسي من وراء الكواليس وفِي الصالونات المخملية المغلقة.
والواقع أن المغرب عاش أزمنة كان فيها الصحافيون يدفعون الفاتورة نيابة عن السياسيين، فانتهى العديد منهم في السجون والمعتقلات والمنافي من أجل أن يصل السياسيون إلى الكراسي التي حلموا بها دائما.
وحده السياسي يبقى مصرا على العودة إلى كرسي السلطة، منتهى طموحه وأقصى ما يحلم به. وفي سبيل هذا الحلم يسترخص السياسي كل شيء، بما في ذلك مبادئه التي يغيرها مثلما يغير ملابسه الداخلية بحسب الظروف والمصالح.
فالسياسي كائن حربائي يتلون بألوان المرحلة، ويستطيع أن يذيب معدنه ويخلطه بأشد المعادن رداءة لكي يحصل على بريق السلطة. والسياسي لديه قناعة راسخة بأنه قادر على “قولبة” الجميع واستعمالهم كيفما شاء من أجل الوصول إلى هدفه، والصحافيون بنظره كلهم أدوات يستطيع أن يجعلها في خدمته وقتما وجد الحاجة إلى إحداها ملحة.
ولعل أكثر ما يثير غضب السياسي هو أن يصطدم بصحافي يبدي صعوبة في العجن والتذويب ويرفض إعارة فمه لكي يأكل به السياسي الثوم. فالسياسيون تعودوا على التعامل مع الصحافيين وأشباههم كألسنة طويلة تصلح للاستعمال ضد السلطة، لأن ألسنة السياسيين مطوية بعناية داخل أفواههم ولا تغادرها إلا لكي تلوك الكلام المداهن والمنافق الذي يسمونه كذبا “الدبلوماسية” و”البراغماتية”.
والواقع أن السياسي يفوض مهمة إطالة اللسان والجهر بالحقائق للصحافي لأنه يحتاج قواربه كاملة ولا يستطيع حرق أي واحد منها. فالسياسي يستطيع أن يكون خصما لسياسي آخر، وفي الغد يمكن أن يصبح حليفه إذا ما رأى أن مصلحته تقتضي دفن الخلاف وتغيير البندقية من كتف إلى كتف. وفي معجمهم العجيب يسمون هذا النفاق “الواقعية السياسية”، فيما اسمها الحقيقي هو “النفاق”. وكم من صحافي صدمه “نفاق” السياسيين الذين ظلوا يأكلون الأشواك بفمه، فقرر أن يعتزل السياسة وأهلها وانصرف إلى ما ينفعه.
ولهذا السبب بالضبط انصرف الكثير من الصحافيين القدامى إلى الاستثمار في مشاريع عقارية وفلاحية بعيدا عن السياسة والسياسيين، فأصبح معظمهم يبحث عن الأنشطة المدرة للدخل عوض إحراق أعصابهم ومصروفهم في المطابع ودور النشر.
وبعضهم محق في ذلك، فإذا كان رجل السياسة يحظى بحماية الإطار الحزبي الذي ينتمي إليه، ويستعمل حصانته البرلمانية أو الحكومية لكي يظل في منأى عن نيران السلطة، فإن الصحافيين يبقون في نهاية المطاف فريسة سهلة تدوسها حوافر الخيول التي تجر عربة السلطة المذهبة عندما يلسعها سوط الحوذي.
وعندما تلعلع السياط وتجلد ظهر الصحافي فإن السياسي يدير وجهه ويبحث عن ظهر آخر لم تشرطه سياط السلطة لكي يحمي به نفسه في تدافعه السياسي المحموم مع هذه السلطة المتمنعة والمشتهاة.
إن الشجاعة والجرأة يجب أن يتحلى بها السياسي أولا، وأن يكون قادرا على قول الحقيقة للناس عندما يكتشفها، لا أن يلزم الصمت ويتذرع بإكراهات المنصب لكي يفوض هذه المهمة لغيره من المتطوعين.
الزعماء السياسيون يعملون، بدون قصد منهم، بنصائح “لاو تسو” التي ضمنها كتابه “فن الحرب”، خصوصا عندما يقول “من يتصرف كزعيم حقيقي لا يشارك في الحرب”، فهم يتركون مهمة خوض الحرب للنمل المقاتل وينتظرون أن تضع الحرب أوزارها لكي يشربوا الأنخاب في جماجم الشهداء.
وعندما يسكر هؤلاء الزعماء السياسيون بخمر السلطة المعتق فإنهم ينسون الأخذ بنصيحة الحكيم “لاو تسو” الأهم، والتي يقول فيها “يحكم أفضل من يحكم أقل”، فيصنع السياسيون المستحيل ويبررون ما لا يبرر لتذوق خمر السلطة أطول وقت ممكن، وعندما ينتزعون منهم ثدي السلطة يشرعون في البكاء كأطفال يرفضون الفطام.
وهذا بالضبط ما يجب على الصحافيين التصدي له، أي أن لا يتركوا السياسي يسكر بخمر السلطة حتى لا يفقد وعيه ويقترف الحماقات، فالصحافي الحقيقي هو الذي ينشغل بالتصدي للسياسيين المزيفين الذين يستعملون الدجل والكذب على الشعب لبلوغ أهدافهم.
أما مهمة التطبيل للحكومة والحزب الذي يقودها فهذه ليست سوى بدعة ابتدعها بعض الصحافيين وأرادوا أن يوهموا الناس زورا وبهتانا بأن هذه هي وظيفة الصحافي الحقيقية.
إذا لم تكن مهمتنا كصحافيين هي مراقبة عمل أمثال هؤلاء المستشارين والمنتخبين والمسؤولين العموميين والوزراء ووضع وعودهم وبرامجهم محل مساءلة يومية، والمطالبة بمحاسبتهم على طريقة صرفهم لأموال دافعي الضرائب، فإنني لا أعرف ما هو الدور الحقيقي للصحافي، إذ ليس المهم أن يسقط حزب معين من الحكومة بسبب فشل وزرائه، المهم أن تبقى البلاد واقفة وليسقط بعد ذلك وزراء الحزب كله. فالمهم، في آخر المطاف، هو مستقبل البلد لا مستقبل سياسييه.
ونحن كصحافيين لا يهمنا أن ينجح هذا الحزب أو يسقط ذاك، فنحن فوق الصراعات الحزبية حول السلطة، لأننا نعتقد أن الصحافة بحد ذاتها سلطة رابعة مستقلة عن باقي السلط، بل إنها في الدول الديمقراطية سلطة فوق كل السلط.
لذلك فواجبنا هو مراقبة عمل الأحزاب المشاركة في الحكومة، ليس حبا فيها وإنما حبا في المصلحة العليا للوطن.
وإذا كانت هناك أحزاب تسقط من الحكومة فليس لأن الصحافة هي السبب في ذلك وإنما لأن حصيلة هذه الأحزاب الضعيفة هي سبب سقوطها.
ووزراء الاتحاد الاشتراكي الذين نزلوا من الحكومة لكي يسلموا المشعل للتكنوقراطي جطو الذي سلمه بدوره للاستقلالي عباس الفاسي ووزرائه، يعرفون أكثر من غيرهم أن حصيلتهم الكارثية هي التي جعلت الشعب يصوت ضدهم خلال الانتخابات، نحن فقط شرحنا هذه الحصيلة الكارثية للرأي العام ووضحنا حجم التناقض بين ما كانوا يقولونه عندما كانوا في المعارضة وما أصبحوا يفعلونه عندما صاروا في الحكومة.
وهذا بالضبط ما صنعناه مع حكومة بنكيران ونصنعه مع حكومة العثماني، وهو ما سوف نصنعه مع أي رئيس حكومة يأتي من بعدهم، والدرس الكبير الذي يجب أن يستخلصه الصحافي من هذا كله هو أن السياسي عابر فيما الصحافي باق، فهو الشاهد الذي يكتب شهادته للتاريخ.