ثقافة القرابين البشرية
بقلم: خالص جلبي
في مطلع يونيو 2003م دخل مجموعة من (السنة) إلى مسجد (شيعة)، فقتلوهم وهم يصلون، وتقربوا بدم 39 إنسانا إلى الله بزعمهم، وهي ليست الحادثة الأولى. وفي لبنان قتل الشيعة السنة، وقتل السنة الشيعة، وقتل الشيعة الشيعة، وقتل السنة السنة، وقتل الكل الكل.
مع أول لحظات تشكل الخلق الإنساني سألت الملائكة عن جدوى هذا الخلق، فلم يؤرقها (الكفر)، بل (القتل). «أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء؟»، وكأن القتل هو الكفر مكثفا، ولكن جواب الله أنه رأى جانبا مختلفا لم يتحقق بعد، قال: «إني أعلم ما لا تعلمون». فهذه المقدمة تختصر ثلاثة أشياء: أن القتل أم المسائل الإنسانية. وأن أفظع القتل قتل الإنسان من أجل اختلاف وجهات النظر. وأن هناك برمجة في الكون سوف تتمخض عن استبدال ثقافة القرابين البشرية بثقافة السلام.
والإنسان اليوم يراوح بين تهمة الملائكة و(علم الله) فيه. فأما الإجرام فقد سجله التاريخ، ولكن التوقعات الإلهية في الإنسان شيء مختلف. وبقدر تخلص الثقافة من مؤشر القتل، بقدر ارتفاع الإنسان وتحقيق (علم الله) فيه. وبقدر سيطرة روح (القتل وسفك الدماء)، بقدر تحقيق تهمة الملائكة عن عبثية خلق الإنسان؛ بقولهم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، فما معنى خلق هذا الكائن المجرم؟
وحب التدمير يحيي ظنون الملائكة القديمة عن كائن لا ينسجم مع السلام في الكون. وعندما يحدث شيء يوظف كل فريق الله في صفه، مخضعا الحدث الكوني إلى تفسيراته. ففي الأول من نونبر من عام 1755م زلزلت الأرض زلزالها في لشبونة عند الساعة التاسعة وأربعين دقيقة صباحا في عيد (كل القديسين)، فلم تبق كنيسة ولا قديس. وخر تحت السقوف ثلاثون كنيسة وألف بيت وثلاثون ألف إنسان بين قتيل وجريح.
وفرح المسلمون في المغرب بانتقام الله من أعدائهم جماعة محاكم التفتيش، ولكن الزلزال لم يوقر المسلمين وكمل طريقه إلى الرباط، فخر المسجد الأعظم هناك على وجهه أنقاضا.
وهلل البروتستانت أن الله أراهم عجائب خلقه في الكاثوليك، أعداء الإنسانية، واعتبر القس (وليم روبرتون) في بريطانيا أن مذبحة لشبونة أبرزت عظمة الله في أبهى صورها للمؤمنين بالانتقام من الكاثوليك. ولكن الزلزال لم يرحمهم، فبعد 18 يوما قتل من البروتستانت بمدينة بوسطن في أمريكا بزلزال مشابه أكثر مما قتل من الكاثوليك في برشلونة.
وذهب البعض إلى أن الله عاقب أهل البرتغاليين لفسوقهم، ولكن أصحاب الحانات والمراقص في باريس استمروا في مجونهم، دون أن يلمسهم الزلزال.
واليوم يرى الفلسطينيون أن حل مشكلتهم هو بقتل اليهود، سواء بضرب الرصاص أو بتفجير أنفسهم في حافلاتهم. كما يرى اليهود أن الله معهم ويرسل إليهم من ينجز عملهم نيابة عنهم، دليلا على حسن أخلاقهم وطاعتهم لرب العزة، كما فعلت أمريكا مع العراق. وأن (خريطة الطريق) إلى فلسطين يجب رسمها كما كانت قبل ثلاثة آلاف عام. وهي حجة تتطلب إرجاع الأمريكيين إلى أوروبا، والأوروبيين إلى شرق إفريقيا، حيث خرج أجدادهم قبل 200 ألف سنة مع الهوموسابينز. وبموجب هذه الحجة يجب تغيير خرائط العالم أجمعين، وحشد جماهير لا عد لها في «ترانسفير» من بقعة إلى أخرى في العالم، مما يتطلب حربا كونية.
وعندما يفجر الفلسطينيون أنفسهم يعتبرونه استشهادا، في الوقت الذي يراه الصهاينة عملا إرهابيا، ومن قتل في الطرف المقابل من أهل النار.
وفي سوريا (الثورة) دعا مفتي الجمهورية (الثوري) إلى حملة استشهادية بتفجير الناس أنفسهم ضد الحملة الأمريكية في العراق، وأنها شهادة في سبيل الله لا تقل عن استشهاد حمزة في أحد والصحابة في معركة مؤتة. ومات الكثير من المغفلين بموجب هذه الفتوى، ولم تصل إلى أهلهم من جثثهم سوى بطاقة نعوة سرية.
وعندما خرت الأبراج دكا في نيويورك ساجدة على الأرض، اعتبرها بن لادن أنها ذروة الجهاد، في الوقت الذي اعتبرها بوش حربا جديدة يجب أن يكيل فيها الصاع بصاعين، فدمر كهوف «تورا بورا» تدميرا، وأحال طالبان إلى التقاعد، فسجلاتهم اليوم في ملفات التاريخ. وصعقت بغداد بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر، ويل يومئذ للمكذبين.
والذي دفع الثمن في حادثة نيويورك ثلاثة آلاف من الأبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في القصة، فهذه هي جدلية التاريخ والفكر والإنسان. وكل حزب بما لديهم فرحون.
وللحكم على جدوى أسلوب من فشله فهي نتيجته. وفي يوم حذر المسيح عليه السلام من الأنبياء الكذبة الذين يأتون «في الخارج حملان، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة»، فقال الحواريون: وكيف لنا معرفتهم؟ قال: من ثمراتهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبا، أم هل تنبت شجرة الحسك تينا؟ وعندما يختلف الأطباء في حالة مريض هل تنفعه الأدوية، أم شق البطن؟ فإن نتيجة العلاج هي التي تشهد على صحة التشخيص، مهما زعق صاحبها لطريقته وتحمس.
وعندما ماتت ريشل (راحيل) الأمريكية وهي تدافع أمام بيت فلسطيني والجرافات الإسرائيلية تقوم بهدمه، فماتت هرسا، هزت الضمير العالمي أكثر من كل قتلى جنين. وفي حرب لبنان قتل الكل الكل، ولكن مذبحة صبرا وشاتيلا حركت المظاهرات في إسرائيل. ومقتل ألف أعزل لا يدافعون عن أنفسهم هز الضمير أكثر من كل قتلى الحرب الأهلية اللبنانية.
واستخدم كاتب ببراعة مصطح (مؤسسة الثأر)، ويقصد بها أن الحماس لقتل اليهود يجمع الناس مؤقتا، ولكنه ليس الحل.
وفي الحديث اعتبر القاتل والمقتول في النار، بسبب انطلاق الاثنين من الأرضية النفسية نفسها «إنه كان حريصا على قتل صاحبه»، وهو تفكيك سيكولوجي في غاية الأهمية.
ونحن لم نستوعب حتى اللحظة صورة الاستشهاد ليس بقتل الآخرين، بل الاستعداد للموت من أجل فكرة بدون مد اليد بالقتل، ولكن من يطرح فكرا من هذا النوع يهرطق.
سئل جحا يوما عن فضيلة السير في الجنازة؟ وأيهما أفضل السير أمام الجنازة، أم خلفها؟ قال: المهم أن لا تكون في النعش، وبعدها يصلح السير في أي مكان.