ثقافة الصحة النفسية
لا يتردد البعض في الاستدلال بالأرقام المرتفعة للتعاطي للمهدئات في أوربا للتأكيد على «نعمة» اللاماديات التي ننعم بها في المغرب. لكن هؤلاء يجهلون أن الإيمان الأعمى ببركات الآلاف من الأولياء في المغرب هو نوع من المهدئات أيضا. فالفرق ليس لكون الماديات هناك هي علة تعاسة الأوربيين و«لا ماديتنا» هي سر سعادتنا.. إنها مغالطة كبيرة، فالحقيقة الثابتة أننا نحن أمة مادية ولم يسبق أن كنا عكس هذا، فالإنسان هناك هو ذاته الإنسان هنا. صحيح للثقافة تأثيرها في فرض نسبية على القيم. لكن الأكيد هو أن الفرق الحقيقي هو أن ثقافة الصحة النفسية هناك، والتي تعد جزءا من فلسفة حياة تعتني بالإنسان في كل أبعاده هي التي تجعل زيارة الفرد للطبيب النفسي أو المحلل النفسي بحسب حالته النفسية سلوكا عاديا. بينما مازال الوضع عندنا «طابوها» حقيقيا. هذا بالرغم من الأرقام الرسمية التي تتحدث عن معاناة نصف المغاربة من مشكلة نفسية أو عقلية.
فما لا يعرفه العموم في موضوع الصحة النفسية هو أن طبيعة المرض النفسي تفرض على ضحيته نكران حالته المرضية، وبالتالي يسهل عليه تبرير سلوكاته حتى أكثرها خروجا عن المألوف.. فالمدرس الذي يجد في ترهيب التلاميذ مصدرا للتوازن، سوف لن يجد صعوبة في تبرير هذا الترهيب بكونه «التربية الحقيقية» أو «أولاد اليوم إلا ما خافوا ما يحشموا»..
ثانيا؛ أن المصاب بالمرض النفسي يصبح معديا، بشكل من الأشكال، لأن نقل العدوى من كائن حي لآخر ليس حكرا على الأمراض الجسدية، بل يمكن للمريض النفسي أن ينقل العدوى أيضا، فالأب الذي يشعر بالنقص تجاه النساء، يعدي ابنته، إما من خلال تعمده احتقارها وتحجيم تحركاتها وتشديد المراقبة على حريتها، أو من خلال دفعها للاستلاب في جنس الذكور. كأن يجبرها على تقليد الذكور في بعض الأنشطة الخاصة بالذكورية، مثل الرياضات العنيفة، أو يمنعها من التعبير الأنثوي عن الشكوى والحاجة مما يسمى عربيا بالدلال، وهذا ما يجعل هذه الطفلة تعتقد أن كل ما هو ذكوري بالضرورة هو الجميل والحسن بينما كل ما هو أنثوي سيئ وقبيح. وفي هذه الحالة تكتمل سلسلة العدوى، من الأب إلى طفلته إلى أطفالها وهكذا تنتشر العدوى وتتخذ أشكالا لا حصر لها.. فعلا هناك عائلات تتوارث العاهات الجسدية وأخرى تتوارث العاهات النفسية.
الحديث عن أشكال جهلنا بالصحة النفسية حديث طويل، لكن ما نريد التنبيه إليه هو أن اهتمام منظومة التربية والتكوين بالجانب النفسي للمتعلم، لا ينبغي أن ينسيها الجانب النفسي للمدرس والإداري، فالمدرس المحبط ينقل الإحباط إلى تلامذته وزملائه، والأمر نفسه في حالة المدرس المكتئب والمدرس المصاب بالإجهاد والضغط النفسي، إلى غير ذلك من الحالات النفسية.. فهؤلاء غالبا ما تجدهم يشعرون بأن جهدهم يضيع سدى وأنهم يبذلون كل ما عندهم ولا أحد يقدر أو يستفيد، بل تجدهم ينخرطون في صراعات مع التلاميذ وزملائهم في العمل، حتى أن هناك مدارس وثانويات وجامعات في المغرب تحولت إلى ساحة معارك حقيقية تحاك فيها الدسائس وتُخاط فيها المؤامرات.