مالك التريكي
التقرير الطويل الذي نشرته «نيويورك تايمز»، قبل أيام، عما سمته «توتر العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل» بشأن الحرب على غزة وبشأن ما بعدها، لا يفي بما يعد. فالعنوان يغري بأن التقرير سيكشف أدلة قوية عن بدء استفاقة لدى الإدارة الأمريكية على حقيقة أن مصالحها القومية لا تتطابق مع مصالح إسرائيل، وبأنه لا يعقل أن تبقى واشنطن متفانية على مر الزمان في دعمها دعما آليا، بل بافلوفيا، ومعادية من أجلها ثلثي دول العالم. وإذا تعذر ذلك، فلعلها أدلة قوية على غضب أمريكي من هذه الدولة الوقحة التي تتلقى من الولايات المتحدة دعما شاملا لا سابق له في التاريخ ولا مثيل له في العالم المعاصر، ولكنها تقابل كل ذلك بمنتهى الجحود والصلف، مستهينة بالمطالب الأمريكية وسالكة مسلك اللئيم المستخف بولي نعمته. وإذا لم يتوفر أي من أدلة الوعي أو الغضب، فقد كان المتوقع على الأقل أن يكون ثمة بعض الأدلة على بروز افتراق فعلي في موقفي الجانبين من غزة وشعبها. ولكن المعلومات الكثيرة التي عرضتها «نيويورك تايمز» لا تتجاوز دلالتها، في الجوهر، بضع حقائق ليس أي منها بالمفاجئ، ربما باستثناء اعتراف السفير الإسرائيلي السابق لدى واشنطن مايكل أورن بأن إسرائيل صارت منذ 7 أكتوبر معتمدة كليا على الولايات المتحدة، وبأن شعار دفاع إسرائيل عن ذاتها بذاتها قد سقط، وإقراره أنه رغم كل التوتر في العلاقة فإن بايدن لم يستخدم السلاحين الكفيلين بإرغام إسرائيل على الاستجابة للمطالب الأمريكية، أي وقف الإمدادات العسكرية، ورفض استخدام الفيتو في مجلس الأمن.
والذي تبين هو أن التوتر ليس بين الدولتين وإنما هو تحديدا بين بايدن ونتنياهو. وهذا معروف، حيث سبق لبايدن أن أعلن، أثناء الحفل الذي فاخر فيه بأنه صهيوني، أنه دائما ما يقول لنتنياهو الذي يعرفه منذ حوالي أربعين سنة: إني أحبك، ولكني لا أشاطرك أيا من آرائك. وهذه، كما ترى، مودة خالصة من جنس ما يكون بين أفراد الأسرة الواحدة، حيث يبقى الخلاف في الرأي بلا عواقب، ما دام محكوما بسلطان المحبة! ثانيا، يتعلق الخلاف أساسا بترتيبات ما بعد الحرب.
بايدن يريد أن تتسلم سلطة رام الله إدارة غزة تمهيدا لإحياء الخطة المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية، بينما يرفض نتنياهو أن يكون لسلطة رام الله أي دور في غزة لأسباب عديدة، أهمها أنه مستميت ضد فكرة الدولة من الأساس. وقد سبق له أن قال لأعضاء الليكود: أنا السد الوحيد بينكم وبين قيام الدولة الفلسطينية، بعد نهاية الحرب.
ولا بد من التذكر بأن قصة بايدن مع «حل الدولتين» تماثل قصة معظم الساسة الغربيين، حيث إن هؤلاء يعتقدون أن مجرد الحديث عن هذا الحل كاف لتحقيقه. ولهذا فإنهم منذ ثلاثين سنة يثرثرون، ولا يزالون. أما ما يمتاز به بايدن عنهم فهو أنه هائم بإسرائيل حبا وغراما، ويكفيه فخرا أنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي بلغ حد البوح بأنه «لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان علينا أن ننشئها إنشاء». ومن شدة هيام الرئيس بحوّائه الإسرائيلية هذه، التي يبدو أنه نسي أنها ما كانت لتوجد حقا، لولا أنها أنشئت من ضلع الشعب الأمريكي إنشاء دينيا واستراتيجيا، فإنه لا يزال إلى اليوم مكتوف الأيدي لا يحرك ساكنا لوقف موجات الاستيطان اليهودي، التي توشك أن تكتسح آخر ما تبقى من بقايا خُمُس فلسطين التاريخية. ورغم ذلك فالرجل لا يزال مؤمنا، على نحو ما، بإمكان الإقامة الفعلية لدولة فلسطينية. وهذا يشبه الإيمان بالسحر والخيمياء، لأنه يوهم بإمكان تدبر أمر تركيب دويلة حتى من فتات متناثر من الأراضي.
ولكن العالم يعرف أن حل الدولتين قد صار مستحيلا. كما يعرف أن عنصرية إسرائيل، نخبة وشعبا على حد سواء، تمنع مجرد التفكير في حل الدولة الواحدة التي تساوي بين جميع مواطنيها مساواة ديمقراطية لا اعتبار فيها للانتماء العرقي أو الديني، على غرار ما فعلت جنوب إفريقيا عند تحررها من نظام الأبارتهايد العنصري. لهذا فليس من العقل أو العدل، إزاء جميع هذه الحقائق العنيدة وإزاء حرب الإبادة الإسرائيلية التي أيقظت في الضمير العالمي تضامنا صادقا مع القضية الفلسطينية، أن تبقى حركة التحرر الوطني الفلسطيني رهينة ثرثرة غربية عن حل مستحيل.
نافذة:
قصة بايدن مع «حل الدولتين» تماثل قصة معظم الساسة الغربيين حيث إن هؤلاء يعتقدون أن مجرد الحديث عن هذا الحل كاف لتحقيقه.