مع بداية الحقبة الاستعمارية، بعد توقيع عقد الحماية، نشأت أولى المؤسسات التعليمية الثانوية بالمغرب، وكان يطلق عليها اسم المدارس الإسلامية، وفي كتابه «أضواء على مشكل التعليم بالمغرب» اعتبر محمد عابد الجابري مبادرة المستعمر هذه محاولة لعزل الشباب ذوي التكوين العصري عن النضال الوطني.
«تحولت أغلب هاته المؤسسات إلى منبت للقادة الوطنيين حيث قدمت للحركة الوطنية أبرز أطرها القيادية من قبيل أحمد بلافريج ومحمد بلحسن الوزاني والمهدي بن بركة»، يقول الجابري. لذا كانت مؤسسات فرنسية المناهج لكنها لم تمنع المغاربة من منافسة الفرنسيين على كراسي التمدرس أولا، وفي درب النضال التقدمي ضد السياسات الاستعمارية.
كان المقيم العام الفرنسي هوبير ليوطي وراء فكرة تأسيس «كوليج» مولاي يوسف بالرباط وفق ظهير فبراير 1916 و»كوليج» مولاي إدريس بفاس سنة 1925، وغيرهما من المؤسسات التي تعد جسورا نحو الدراسات العليا والوظائف السامية، لكن بموازاة مع ذلك قام بعض الوطنيين بتأسيس التعليم الحر، وهي تجربة مستلهمة من النموذج المصري والسوري.
كانت الثانويات التي بناها المستعمر أشبه بمصنع للكفاءات المغربية، و»ماكينة» لمشاريع النخب، لكن مع مرور الوقت تغيرت أسماؤها وتم تعريبها، كي تتخلص من الإرث الاستعماري، فثانوية الحسن الثاني، بالعاصمة، وهي أحد أقدم ثانويات المغرب، والتي يعود تاريخها إلى 1919 كانت تسمى «ليسي كورو»، و»ليسي آزرو» أصبح يحمل اسم طارق بن زياد، وقس على ذلك، لكن مهما تغيرت الأسماء فإن سجلات هذه المؤسسات تحفظ ذاكرة التعليم وتشهد على مرور تلاميذ كانوا يمزجون بين الدراسة والشغب التعليمي إلى نخب سياسية تحكم البلاد والعباد.
وزراء وزعماء من ثانوية رينيو بطنجة
حين احتفلت ثانوية رينيو، في مدينة طنجة، بالذكرى المئوية لتشييدها، ظل مدير هذه المؤسسة، التي ترتبط بالبعثة التربوية الفرنسية في المغرب، يسرد خلال فقرات الحفل أسماء الشخصيات التي حكمت فرنسا والمغرب والتي جلست في شبابها على مقاعد هذه المؤسسة وركضت في ساحتها الصامدة منذ أن كانت طنجة تخضع للحماية الدولية.
خلال الحفل شد الرحال إلى هذه المعلمة التاريخية أزيد من 500 تلميذ سابق في الثانوية، وكان من ضمن المشاركين في هذا الملتقى المشبع بالنوسطالجيا مسؤولون سامون ومثقفون وفنانون ورجال أعمال منتشرون في العالم.
على رأس الحاضرين الوزير المنتدب لدى وزير الشؤون الخارجية والتعاون، يوسف العمراني، الذي يعتبر من تلاميذ ثانوية رينيو سابقا، والذي وصف المؤسسة بمركز «الانفتاح والحوار والتسامح، وهي القيم التي تشكل القاعدة الهوياتية للمغرب».
تحولت الثانوية إلى مزار لكثير من السياسيين الذين يجدون متعة في استحضار ذكرياتهم وهم يجوبون أقساما دراسية تحفظ ذكرياتهم، من بينهم وزير التعليم الفرنسي، فانسان بييون، كما أصر الرئيس التونسي السابق، المنصف المرزوقي، على زيارة مدينة طنجة عشرات المرات، دون أن يلفت نظر أحد، لكن حين أصبح المرزوقي رئيسا للجمهورية التونسية نالت الزيارة حيزا كبيرا من اهتمام وسائل الإعلام، رغم أن منصف ركز في زيارته لمدينة طنجة على الأمكنة التي تعايش معها خلال الفترة التي قضاها في عاصمة البوغاز خلال الستينات من القرن الماضي، عندما كان يتابع دراسته بثانوية «رينيو».
قضى المرزوقي في مدينة طنجة فترات التحصيل ما بين 1961 – 1964، حين التحق بوالده محمد البدوي المرزوقي، المعارض للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، والذي فضل النفي الطوعي هروبا من بطش الحبيب إلى أن توفي في مراكش سنة 1988، وكان هروبه ناتجا عن فوز التيار البورقيبي، حسب شهادة منصف المرزوقي، الذي يتحدث في مذكراته عن علاقته الوجدانية بمدينة طنجة، فيقول: «عشت مع أسرتي المهاجرة في مدينة طنجة في جو جديد من اليسر المادي والأمان النفسي، وطيلة هذه السنوات تعلمت حب المغرب والمغاربة. فقد استضاف البلد أبي المضطهد وفتح لعائلتي المشردة أبوابه الواسعة فغرفنا من كرمه ومن حسن وفادته. وهو إلى يوم يبعثون بلدي الثاني وهو البلد الأول لإخوتي الذين ولدوا من أم مغربية وعاشوا فيه دون انقطاع».
ثانوية طارق بن زياد بأزرو.. مصنع المتمردين
حين فكر الفرنسيون في إنشاء مدارس «بربرية»، كأداة لزرع «الظهير البربري» فكر في بناء المدرسة «الأولى» بإيموزار سنة 1914 ضمت 13 تلميذا، بعدها انتشرت المدارس بالقرى والجبال على طول الأطلس المتوسط، قبل أن يوسع المجال ويغير المناهج ويبني في أزرو مدرسة جهوية تحولت في سنة 1931 إلى ثانوية تعرف بـ«ليسي أزرو»، وتصبح في ما بعد «ثانوية طارق بن زياد» حيث كانت تحتوي على داخلية تأوي أبناء المناطق المجاورة يختارون بدقة بعد استكمالهم للدراسة بأزرو، حسب رواية لويس ماسنيون. ووصفها بول مارتي في كتابه «مغرب الغد» بالمدرسة البربرية الوسط الفرنسية المنهاج.
من هذه المؤسسة مر عدد من كبار المسؤولين العسكريين ورجالات المخزن، ولقد التحق محمد أوفقير من أجل متابعة دراسته بـ«ليسي أزرو»، وكان في دراسته تلميذا هادئا، ولم يكن خارق الذكاء، ويذكر أصدقاؤه أنه كان يحب النوم، كان أفضل صديق له في تلك المرحلة، تلميذ ريفي نجيب وذكيا جدا، يدعى الخياري إدريس بوكرين الذي سيصبح جنرالا فيما بعد ويظل رفيق دربه لمدة تزيد عن ثلاثين سنة. وعرفت المؤسسة تفريخ عدد كبير من الضباط منهم كثير من الانقلابيين.
مقارنة بالعساكر فإن حضور المدنيين كان ضعيفا في لائحة خريجي هذه المؤسسة إلا أن محمد شفيق الذي سيصبح في ما بعد وزيرا، متمردا على العادة التي تجبر معظم المتخرجين من النظام التعليمي الذي كانت ثانوية أزرو خاضعة له، على الالتحاق بالخدمة في الجيش الفرنسي كضباط عسكريين. وحسب دراسة حول خريجي الثانوية أنجزها عبد الفتاح أيت أدري، فإن محمد بن علي شفيق قد عين سنة 1970 كاتبا للدولة مكلفا بالتعليم الثانوي والتقني والعالي وتكوين الأطر، وهو نفس المنصب الذي احتفظ به في الحكومة المكونة في غشت 1971، ومن 13 أبريل إلى 19 من نونبر من نفس السنة، عين محمد شفيق مكلفا بمهمة في الديوان الملكي وفي نفس الوقت مديرا للمعهد المولوي بالرباط.
ويبقى المحجوبي أحرضان من أبرز خريجي ثانوية أزرو، التي التحق بها في بدايتها وبعدها التحق بالمدرسة العسكرية بمكناس التي تخرج منها سنة 1940 برتبة ضابط. قبل أن يتدرج في مناصب حكومية، بعد أن عين عاملا على الرباط. وفي سنة 1957، أسس إلى جانب الدكتور عبد الكريم الخطيب الحركة الشعبية وتقلد منصب الأمين العام للحزب ثم وزيرا للدفاع الوطني ما بين 1961 و1964. في 21 مارس 1963 عين وزيرا للفلاحة والإصلاح الزراعي، وفي 1 مارس 1977، عين وزير دولة وفي 10 أكتوبر من نفس السنة، عين وزير دولة مكلف بالبريد والمواصلات ثم وزير دولة مكلف بالتعاون.
يقول لحسن بروكسي عن تجربته في هذه الثانوية: «هكذا قادتني الصدف نحو ثانوية أزرو. كان عمري حينها لا يتجاوز العشر سنوات. هناك سأجلس في نفس الفصل الدراسي مع أبناء القياد والباشوات والأعيان الذين يخضعون لتعليم صارم بفضل المدير الفرنسي مونداي، وهو مدير مدرسة برتبة كولونيل، أما الحارس العام لافورتي، ذو الأصول الكورسية، فهو اليد الحديدية للكونيل».
ثانوية مولاي يوسف بالرباط.. مشتل النخب السياسية
يعود تاريخ تشييد ثانوية مولاي يوسف في الرباط إلى عام 1916، ويومذاك كانت تسمى «الإعدادية الإسلامية الصغيرة»، وكانت تقع في حي باب العلو في العاصمة. وفي عام 1920 نقلت من باب العلو إلى المشور السعيد، وهو عبارة عن قطعة أرض تعود ملكيتها للأسرة الملكية المغربية، وإلى الأمير مولاي يوسف على وجه التحديد، وبالتالي، حملت الثانوية اسم الأمير حتى اليوم. وكانت، إلى جانب أنها مؤسسة تعليمية، تضم أيضا مركزا لتدريب المدرسين في المرحلة الثانوية.
شاءت الصدف المجالية والتاريخية، أن تتحول ثانوية مولاي يوسف بالرباط، إلى رحم ينجب باستمرار رموز الحركة الوطنية وقيادات المخزن في ما يشبه التعايش بين السلطة والمعارضة، لذا تفخر المؤسسة بصناعة النخب السياسية، فمن خريجيها وطلبتها السابقين شخصيات بارزة كثيرة منها من احتل مواقع وزارية وسياسية رفيعة لعبت دورا كبيرا في تاريخ المغرب. بل إنها اعتبرت في نظر المستعمر ثانوية للتميز.
احتل كثير من تلاميذ الثانوية مناصب حكومية، منهم المهدي بن بركة، وعبد الرحمن اليوسفي، ومحمد اليازغي، ومحمد علال سي ناصر، الذي كان مستشارا للملك الحسن الثاني، ووزيرا للثقافة، وحدو الشيكر، وهو وزير سابق، وفتح الله ولعلو، وزير المالية والاقتصاد السابق.
وكانت المؤسسة طريقا سالكا، نحو المعاهد والمدارس العليا في فرنسا، كمدرسة البوليتكنيك الشهيرة عالميا، ومعهد المناجم ومعهد الجسور والطرق. وقال الراحل محمد امجيد وهو يستحضر مساره في هذه المؤسسة، «كنت أجلس في نفس الطاولة الأولى بالقسم إلى جانب المهدي بنبركة، نفس الفصل الدراسي تواجد معنا الإخوة بوهلال، ومن وجدة المدني وهو لاعب سابق للمولودية الوجدية والمنتخب الوطني، وأحمد شهود مدافع سطاد المغربي والمنتخب الوطني والذي أصبح يحمل الملعب اسمه، وفي قسم آخر كانت عناصر أخرى كالإخوة الخطيب وبلحاج. وكان يدرس بالثانوية أغلب أفراد عائلة بنجلون المعروفة بثرائها ودعمها للرياضة والحركة النضالية بصفة عامة».
كان من الطبيعي أن تعرف الثانوية اضطرابات بوجود شباب طموح، «أول إضراب قمنا به، كان احتجاجا على الظهير البربري الذي أصدره المستعمر الفرنسي. أتذكر أنه في الصباح الموالي للإضراب جاء مدير المؤسسة، ويسمى نييال، وكان متوترا لأنه كان يرفض ظهور أعراض الرفض في صفوف الشباب، بل وكان يحاول منع تكتل شباب البوادي، أي أبناء ميدلت وأزرو، لأن الرفض الجماعي والمواقف المتخذة من طرف شباب متعلم كانت تشكل خطرا على المستعمر، لهذا تلقيت إشعارا من مديرية التربية الوطنية والتي كانت تقوم آنذاك مقام وزارة التعليم، وكان المدير يعطف علي لأنه لاعب تنس ومهووس بكرة السلة ودافع عني أمام إدارة الثانوية كي لا أتعرض للطرد. من هنا، بدأت بوادر الحركة الرافضة للمستعمر، لظهيره البربري أولا ثم لقراراته، وكنا عبر فريق الكرة نجسد التكتل ونمارس حقنا في الدفاع عن وجودنا»، يضيف امجيد.
قامت إدارة المؤسسة بإعادة نشر للعناصر النشيطة، في محاولة لإبعادها عن محيط الثانوية الأكبر في المغرب، والتي تعتبر نواة حقيقية لتخريج أطر البلاد، والبداية كانت بالمهدي بنبركة الذي أحيل على ليسي غورون وأحيل رفاقه على ثانية مولاي إدريس بفاس. كان قرارا صادرا عن الحركة الوطنية التي تكلفت بإقامتهم في باب بوجلود.
ثانوية مولاي إدريس بفاس.. الجاه والمال والسياسة
كانت نسبة التحاق المغاربة بمؤسسات التعليم الأوربي مرتفعة بكل من البيضاء ووجدة، ويعزى ذلك أساسا إلى غياب مؤسسة ثانوية خاصة بالتعليم الإسلامي وهو عكس ما تم تسجيله بكل من فاس والرباط حيث كان أغلب أبناء الأعيان المغاربة يلتحقون بثانويتي مولاي إدريس ومولاي يوسف.
عرفت ثانوية مولاي إدريس بفاس (مدرسة موريال)، ابتداء من سنة 1916، حركة تعليمية صلبة بوجود أسماء بارزة أصبح لها شأن في النسيج السياسي، في ظل إقبال باهت من النخب الفاسية على تعلم اللغة الفرنسية، إذ «انحصر في أبناء اليهود المغاربة، وأبناء الجالية الجزائرية، وذلك إلى حدود الموسم الدراسي 1936-1937، الذي سجل قبول أوائل التلاميذ المغاربة بهذه المؤسسة، وظل عددهم قليلا، أغلبهم من أبناء بعض المحميين الإنجليز». كان ولوج التعليم الأوروبي بسائر المدن المغربية يخضع بدرجة أولى لموافقة مدير المؤسسة، فيما الأمر بمدينة فاس كان يختلف جذريا، ربما لأنها كانت تحظى بوضع خاص، إذ كان البت في الطلب رهينا بموافقة إدارة التعليم بالرباط، التي أصبحت تتحكم في نسبة التلاميذ المسلمين بالمؤسسات التعليمية الأوروبية، ذلك أن أمر قبول أو رفض الالتحاق بهذه المؤسسات أصبح رهينا بإرادة الشؤون السياسية، بعد دراستها لملفات المرشحين التي كانت تضم عدة وثائق، أهمها طلب المرشح الذي كان يتضمن معلومات عن وضعية العائلة والأسباب الداعية للالتحاق، ورأي مدير المؤسسة التي قدم إليها الطلب، غير أن أهم ما كانت تتضمنه هذه الوثيقة هي الخانة الخاصة بالخدمات المقدمة للوطن، أي فرنسا. وعلى غرار باقي المؤسسات عرفت الثانوية إنشاء خلية لتأطير التلاميذ وتنسيق العمل الوطني بينها وبين باقي الأجهزة الحزبية المسيرة، وقد تم اختيار المتحدث بنسالم الكوهن رئيسا لهذه الخلية وعضوية امحمد الدويري، وجواد الفاسي، وعمر الإدريسي، وعائلات جسوس وبنونة والتازي وبلبشير ومكوار وبو طالب، والتازي، والفاسي، وكلها عائلات غنية وذات تأثير كبير بمدينة فاس. فضلا عن الوزير محمد بوسعيد الذي حصل على الباكالوريا في شعبة العلوم الرياضية، سنة 1980، في ثانوية مولاي إدريس. وكلهم تقلدوا مناصب سياسية في الحكومات المتعاقبة.
«ليسي» عمر بن عبد العزيز بوجدة صنع حكومة الجزائر
عاش الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة جزءا من حياته في مدينة وجدة، عاصمة الجهة الشرقية للمملكة، لذا لا يتردد سائقو سيارات الأجرة في الكشف لزبنائهم الوافدين على المدينة عن المنزل الذي ولد وترعرع فيه حاكم الجزائر، قبل أن يقود الحديث إلى سجال حول ثنائية الاعتراف والجحود.
في كتابه «بوتفليقة.. بهتان جزائري» يتحدث محمد بن شيكو الكاتب والصحفي الجزائري، عن فصل من فصول طفولة وشباب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، خصص فيه حيزا هاما لمدينة وجدة مسقط رأس بوتفليقة وموقع تعليمه ودراسته.
وقال محمد أسعدي، إن مدرسة سيدي زيان هي أول مؤسسة للتعليم الرسمي العمومي في المغرب، وفي شهر أكتوبر من سنة 1940 أنشئت فيها أقسام للسنة الأولى من التعليم الثانوي، الأمر الذي مهّد لبناء ثانوية عبد المومن. وفي سنة 1952 أصبحت مدرسة تطبيقية، وكذا مدرسة للمعلمين، كما كانت في فترة من فترات الاستعمار مركزا للطبخ لإطعام تلاميذ المدراس المتواجدة في مدينة وجدة. آنذاك كانت المدرسة -إضافة إلى مهام التربية والتعليم- تهتم بالصحة، فكانت توفر للصغار مراهم للعيون ومساحيق لمحاربة الحشرات، كالقمل في الشعر، والفحوصات الطبية على داء السل، والعيون لتوفير النظارات لضعاف البصر».
التحق خريجو هذه المدرسة بثانوية عمر بن عبد العزيز. وهي من أقدم الثانويات المغربية، حيث يرجع تأسيسها إلى سنة 1915، وأغلب تلامذتها ولجوها عبر ابتدائية سيدي زيان. وتخرج منها العشرات من السياسيين وكبار الديلوماسيين، ليس المغاربة فقط، بل حتى الجزائريين والفرنسيين.
كانت الثانوية بمثابة «بوليتكنيك المغرب»، وكان التعليم فيها حكرا على المُستوطنين الفرنسيين وعلى الجزائريين، باعتبارهم «فرنسيين من الدرجة الثانية» ثم بعد ذلك تم السماح للمغاربة المتفوقين بولوجها، يقول نفس المصدر.
وفي إدارة المؤسسة لائحة بأسماء الخريجين، وتضم عبد العزيز بوتفليقة، الرئيس الجزائري، شكيب خليل، وزير الطاقة والمناجم الجزائري الأسبق، الجنرال أحمد الصنهاجي الذي عمل سفيرا للجزائر في واشنطن، حميد تراب، وزير جزائري سابق، نور الدين يزيد الزرهوني، وزير الداخلية الجزائري السابق، عمر بنجلون، القيادي الاشتراكي المغتال في 1975، زليخة نصري، مستشارة الملك، علال سي ناصر، مستشار الملك الراحل الحسن الثاني، موسى السعدي، وزير الطاقة والمعادن الأسبق، محمد المباركي، وزير الإسكان السابق، نجيمة طاي طاي، وزيرة محاربة الأمية سابقا، كريستيان نوكشي، وزير منتدب لدى الخارجية الفرنسية مكلف بالتعاون والتنمية في حكومة ميتران.
الخوارزمي بالدار البيضاء.. الثانوية التقنية التي أنجبت «تقنيي» السلطة
أصدر المقيم العام الفرنسي ليوطي قرارا ببناء المدرسة الصناعية والتجارية للدار البيضاء، في 25 أبريل 1917، لكن حين داهمه الموسم الدراسي، فتح محلات مؤقتة لتدريس التلاميذ، في بوسمارة بالمدينة القديمة، قبل تنقيل التلاميذ إلى المقر الحالي للمؤسسة بمنطقة كراج علال، بعد أن صدر ظهير التأسيس في الجريدة الرسمية. لم تكن المؤسسة تقتصر على تكوين الطلاب في الصناعة والتجارة بل الفلاحة أيضا بعد أن امتلكت ضيعة للتجارب تابعة لها، في المكان الذي يوجد به الآن مقر الدرك الملكي بعين حرودة، حيث كان التلاميذ ينتقلون في حافلة في ملكية المؤسسة إلى الضيعة، وهي الحافلة التي لازالت أشلاؤها جاثمة في ركن بالمؤسسة.
يقول الدكتور محمد عبور، العضو في جمعية قدماء تلاميذ ثانوية الخوارزمي التي أسست سنة 1993، إن الخوارزمي كانت المرفق التكويني الوحيد في قطاع الصناعة والتجارة، وقال مدير سابق إن حاجة البلاد إلى أطر مدربة عجل بفتح الثانوية، التي «كانت تقوم مقام التكوين المهني، وهي المدرسة الوحيدة في المغرب بعد مؤسسة طنجة، وأول فوج تخرج منها يرجع لسنة 1919 بعد سنتين من التكوين».
من الأسماء التي تخرجت من هذه الثانوية، نجد إدريس جطو رئيس المجلس الأعلى للحسابات، الذي تقلد مناصب وزارية عديدة، والمستشار الملكي مزيان بلفقيه، ومحمد القباج وزير التجهيز السابق الذي شغل منصب عامل للدار البيضاء. ومحمد حصاد وزير الداخلية، وعدد كبير من مكونات «الباطرونا» المغربية. المدير العام السابق لشركة التبغ والرئيس المؤسس لشركة كيتيا والرئيس المدير العام لوفا بنك والمدير العام للموانئ وبعض جنيرالات الجيش المغربي، عدد كبير من الشخصيات التي حكمت البلاد بيد من «حديد».
وكان إدريس جطو قد أكد في تصريح سابق بأن مدينة الجديدة شهدت بداية مساره التعليمي، قبل أن ينتقل إلى الدار البيضاء حيث أكمل دراسته بثانوية الخوارزمي، لعدم وجود ثانوية تقنية في مدينة الجديدة، وفيها حصل الفتى على شهادة الباكالوريا شعبة التقنيات والرياضيات سنة 1964، والتحق بكلية العلوم بالرباط شعبة الفيزياء والكيمياء، وحصل فيها على دبلوم الدراسات المعمقة، كما حصل شهادة تدبير وتسيير المؤسسات سنة 1968 من «كوردوينرز كوليدج» بلندن.
مدرسة الطرطوشي بأبي الجعد خرجت كبار الوزراء
تلقى الحبيب المالكي دروسه الابتدائية والإعدادية في حاضرة شرقاوة أبي الجعد، وظل يشكل داخل مدرسة الطرطوشي عنصرا متمردا يطالب باستمرار بتحسين وضع التلميذ، قبل أن يجد نفسه وزيرا للتعليم.
كان من الطبيعي أن يرتقي المالكي إلى مصاف الوزراء، مع صعود نجم الاشتراكيين بعد تعيين عبد الرحمن اليوسفي على رأس حكومة التناوب، إذ عين ابن البادية الشرقاوية سنة 1998 وزيرا للفلاحة والتنمية القروية والصيد البحري ثم وزيرا للتربية والتعليم.
كانت مدرسة الطائفة اليهودية، وهي المدرسة المعروفة حاليا باسم مدرسة الطرطوشي، والتي استثمرت مباشرة بعد رحيل اليهود من طرف رجال الدولة التي تخرجوا منها.
لكن بشهادة أهالي أبي الجعد، فإن أسرة المالكي تعد من أبرز الأسر الاتحادية، إذ كانت نموذجا للتعايش مع يهود المدينة، كما أكد الدكتور أيلي الباز حين تحدث عن العلاقة التي كانت تجمع والده بوالد المالكي معتزا في ذات الوقت بثقافته اليهودية المغربية.
درس الحبيب في مدرسة الطرطوشي التي كان يدرس بها اليهود والمسلمون، تحت إدارة لخميس عبد القادر، إلى جانب زملائه من التلاميذ البجعديين مسلمين ويهود، حيث تألق دراسيا إلى جانب اليهودي ساباي ليفي والمسلم الشرقاوي نور الدين وبيريس روزا وبوطبول جاكلين وحسن النوري.
ويعتبر مولاي الطيب الشرقاوي سليل أسرة وزير الدولة السابق محمد الشرقاوي، فقد ولد وزير الداخلية السابق في المدينة العتيقة لأبي الجعد سنة 1949، تابع دراسته في المدينة الصوفية، قبل أن يسافر إلى الرباط لاستكمال تعليمه الجامعي حيث حصل على الإجازة في الحقوق من جامعة محمد الخامس بالرباط.
وفي مدرسة الطرطوشي تلقى ولد عمر بيريتس ابن ملاح أبي الجعد، دراسته رفقة المسلمين، مما يؤكد حجم الانصهار بين المسلمين واليهود في هذه المدينة. كان والده يقود الطائفة اليهودية في المدينة وكان يملك محطة بنزين فنشأ الفتى وسط أسرة يهودية مغربية ميسورة الحال، يتحدث العربية واللهجة المغربية بطلاقة، بالإضافة إلى الفرنسية والعبرية. قرر والده الانضمام إلى الرحلة الكبرى لليهود المغاربة نحو «أرض الميعاد»، فهاجر عمر رفقة أفراد أسرته وهو تلميذ ليصبح وزيرا للدفاع الإسرائيلي.
مؤسس البوليساريو في ثانوية محمد الخامس
في خريف سنة 1957 توقفت حافلتان أمام بوابة دار التوزاني، لم يكن الأطفال الصحراويون يعرفون أين يقودهم القدر، فقد اعتقد أغلبهم أن الدار الفسيحة هي مدرسة تضم داخلية، لكن مع مرور الأيام علموا أن الفضاء الواسع يعرف بدار التوزاني، وبعد قضاء ثلاثة أيام كان رجال السلطة يسارعون لتسجيلهم في مدرسة سيدي محمد بن يوسف دون أن يكون لكثير منهم الوثائق التي تسمح بالتسجيل، ودون اعتبار لانتهاء آجال الالتحاق بالمدرسة، فقد كان الموقف استثنائيا.
حين اجتاز أغلب التلاميذ التعليم الابتدائي انتقلوا إلى ثانوية بعيدة في شارع 2 مارس «ثانوية محمد الخامس» ومنهم من تم نقله إلى الرباط لاستكمال تعليمه الثانوي في ثانوية الليمون.
كان عبد القادر طالب عمر، الذي سيشغل في ما بعد منصب «وزير أول» في جبهة البوليساريو، من بين العناصر النشيطة في دار التوزاني، وشكل إلى جانب الأطفال الوافدين من طانطان النواة الصلبة لهذا التكتل الصحراوي، وقد اختار اجتياز مباراة ولوج مدرسة المعلمين قبل حصوله على الباكلوريا ويظفر بمنصب معلم، قبل أن يصبح من وجهاء تيندوف.
وخلافا لهؤلاء، كانت طباع طفل يدعى محمد الشيخ بيد الله هادئة، لا ينتفض لانتفاضة زملائه، ولا يخاطر بنفسه من أجل مطلب قد يكلفه غاليا، لقد كان اسم بيد الله على رأس قائمة المرحلين إلى الدار البيضاء، قادما إليها من بويزكارن رغم أنه من مواليد مدينة سمارة، حصل الرجل على شهادة الباكلوريا في الدار البيضاء لينتقل إلى كلية الطب بالعاصمة الرباط في نهاية الستينيات، ثم يعود إلى العاصمة الاقتصادية طبيبا بمستشفى ابن رشد.
كان البرنامج صارما، حرص المدير المعطي على تنفيذه وكأنه نسخة منقحة من صاحب البيت الفسيح، كان يخصص يوم الجمعة للاستحمام الجماعي ويتم في مساء ذات اليوم نقل الجميع إلى إحدى دور السينما بشارع الفداء لمشاهدة أحد الأفلام المخصصة للأطفال، ولأن صاحب السينما كان من رجال المقاومة فقد مكن الوافدين الصحراويين من مجانية الفرجة. وفي أيام الأحد يمكن لأبناء شنكيط مغادرة الدار بكامل الحرية دون الحاجة لحضور الوجبات الغذائية، مما يمكن العديد منهم من التعرف على المدينة واكتشاف أحيائها ومنهم من كان يفضل التردد على الأسواق والوقوف في الصفوف الأولى لحلاقي القريعة. وفي المساء يعودون جماعيا إلى دار التوزاني عبر الحافلة التي كانت تربط وسط المدينة بعين الشق والحاملة لرقم 4 وتشتغل بالكهرباء، وفي اليوم الموالي يستأنف الجميع دراستهم بعد أن يلزمهم مسؤولو الدار بمراجعة دروسهم.
كان مصطفى الوالي من أبرز نزلاء دار التوزاني وأكثرهم شجاعة، وهو الذي سيصبح زعيما للبوليساريو بعد أن تشرب أطروحة الانفصال، وينتهي به المطاف قتيلا بعيار ناري من الخلف في هجومه على العاصمة نواكشوط سنة 1976. لقد تعلم مصطفى أول دروس الاحتجاج في الخيرية، وأشرف على تنظيم وقفات احتجاجية أمام عمالة الدار البيضاء، قبل أن تختمر تجربته الثورية بعد التشبع بالمد الشيوعي، ويجد نفسه في طليعة الوقفة التي نظمها على رأس مجموعة من الطلبة الصحراويين، الذين رافقوه في ملجأ التوزاني، منددا بزيارة وزير خارجية فرانكو لوي برافو للمغرب.
ظهر واضحا من خلال البيان التأسيسي لجبهة البوليساريو الصادر في الصادر 10 ماي 1973، وجود أسماء عديدة عاشت هذه التجربة، ومن خلال لائحة الصحراويين التسعة المؤسسين للجبهة يمكن الوقوف على دورها في بناء شخصية المتمردين الشباب، خاصة بعد أن ذاقوا وهم في فترة الشباب أكبر أصناف التعذيب في مخافر الشرطة بسبب تصرفات لا تتجاوز حدود شغب اليافعين في تجمعاتهم. تضم اللائحة الوالي ولد الشيخ مصطفى السيد، المنحدر من مدينة السمارة، وولد الشيخ بيد الله وهو من نفس المدينة الدينية، وعمر ولد الشيخ حامد، رجل ثقة الوالي السيد، وإبراهيم غالي ولد الشيخ المصطفى، والبشير ولد عبد الله الدخيل المولود في مدينة العيون، وهو سياسي صحراوي معروف بمواقفه الإنسانية والحقوقية، وصدافة ولد امحمد باهية وهو من أصول موريتانية، ومحمد لمين من مدينة طانطان الذي أصبح الرجل الثامن في هرم الجبهة في ما بعد، وهو مفكر ومنظر سياسي، والمحفوظ علي بيبا المنحدر من نفس المدينة والذي أصبح مؤسسا ومديرا لجهاز للمخابرات بالبوليساريو لفترة زمنية. فضلا عن ماء العينين مربيه ربو الذي أصبح مديرا لإذاعة الانفصاليين، واللائحة طويلة.
تقرر توزيع أبناء الشهداء على مدن مختلفة بعد أن اقتنعت السلطات أن تجميعهم في مكان واحد من شأنه أن يساهم في بناء مشروع ثوار لتنتهي حكاية أبناء شنكيط.