شوف تشوف

الرأيالرئيسية

تيتانيك الغلابة

تعود السفينة «تيتانيك» الأسطورية بعد مئة عام من غرقها، إلى واجهة الأحداث، لتثير الجدل واللغط والفضول. يقال إن لعنة غامضة كانت السبب في استقرار السفينة وركابها في قعر المحيط لمدة قرن من الزمن. تطفو لعنة «التيتانيك» على سطح المحيط الأطلسي، لتفتك بمجموعة من «المرفحين» الذين يملكون الكثير من «وسخ الدنيا» والقليل من الخلايا الدماغية القادرة على التمييز والإدراك واتخاذ القرارات الصائبة. يخبرنا المثل الشعبي المغربي كيف أن «المال السايب كيعلم السرقة»، بينما تعلمنا الرأسمالية المتوحشة كيف أن الثراء الفاحش قد يصيب صاحبه بالجنون.

شهد العالم، الأسبوع الماضي، حادثة مؤسفة هي الأغرب من نوعها، حيث قرر مجموعة من الأثرياء «يخلصو ربع مليون دولار للمومن» للنزول إلى قعر المحيط على متن غواصة مشكوك في أمر سلامتها التقنية واللوجيستية، لرؤية حطام «التيتانيك». «واشوف هاد المرفحين على هوايات عندهم». يتقاسم معظم البشر مشاعر الغضب والحزن والحب والانتقام والرغبة في النجاح. يجمعنا المشترك الإنساني ويفرقنا المال. تحول الثروات الطائلة أصحابها إلى كائنات مختلفة عن باقي البشر. يحتاج الأثرياء إلى جرعات مركزة من هرمون السعادة. يلهثون خلف مستويات مرتفعة من «الأدرينالين» لضخ دماء الإثارة و«الأكشن» في شريان حياتهم المخملية، ولتعويض الإحساس بالفراغ الناتج عن البذخ والشعور المستمر بالأمان المادي. «اللهم ارزقنا نعمة الشعور بالفراغ الباذخ».

لاحظ، عزيزي القارئ، أننا نتحدث هنا عن الأثرياء الحقيقيين من ورثة العائلات الأرستقراطية ومديري الشركات العالمية وتجار السياسة والسلاح والمخدرات، «ماشي صحاب الفيلا بالكريدي والكونجي فتركيا». تحوم أساطير وإشاعات عديدة حول أسلوب حياة النخبة الثرية. هوايات غريبة ومغامرات تحبس الأنفاس. تربية حيوانات برية ضارية، سبر أغوار كهوف تحت الأرض، غوص في البحار وسفر نحو الفضاء. أنشطة قد يعتبرها «المزاليط» مجازفة حقيقية أو ضربا من الجنون، بينما يرى «مول الكتوبا»، البليونير «جيف بيزوس»، أن البقاء 11 دقيقة في الفضاء أمر مسل يقوم به في أوقات الفراغ. تختلف نظرة الأثرياء للحياة عن باقي البشر. لا تدور في عقل البليونير هواجس فواتير «الما والضو». ولا يحمل هم الانتظار ساعات طوال على عتبات المستشفيات. ولا يطرح السؤال الفلسفي الوجودي الملح «باش غادي نكمل الشهر». في ظل هذا الصفاء الذهني الهادئ، لا يتبقى في عقل «المرفحين» سوى القلق على مؤشرات بورصات نيويورك وطوكيو، والخوف على آبار البترول ومناجم الماس، والتفكير في مغامرة جديدة يعرض فيها البليونير حياته للخطر. الشعور بالدهشة والاستغراب من أسلوب عيش «رابحي يانصيب الحياة» ليس شعبوية أو حقدا طبقيا مجانيا، لكنها الحياة.. فالحياة غير عادلة عزيزي القارئ.

اجتاحت «السوشال ميديا» موجة من السخرية السوداء إثر حادث الغواصة. «المزاليط بردو قلوبهم» عبر تدوينات ومقاطع فيديو تنتقد القرار الغبي والمتهور «لبنادم مخلص الفلوس باش ينتحر فقاع البحر». غير أن السخرية الحقيقية تجسدت في كلمة ألقاها الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، حين انتقد بشدة التغطية الإعلامية المكثفة لقصة الغواصة، مقابل «صوت صرصار الحقول» في التعاطي مع حادث غرق قارب للمهاجرين غير الشرعيين.. حيث اتهم مهندس الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط وصانع «الدياسبورا» السورية، الصحافة، بالنفاق وازدواجية المعايير في التعاطي مع الحادثين. أوباما، الذي أشعلت إدارته حروبا في ليبيا والعراق وسوريا، والذي قالت وزيرة خارجيته إن الحرب في ليبيا مجرد رهان، «كيقمرو بأرواح العباد ومصائرهم».

نعم، عزيزي القارئ، أوباما ملاك الموت غير الرحيم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يحاضر، بلا حيا بلا حشمة، عن الأخلاق وازدواجية المعايير، ويطالبنا بالتعاطف مع الإنسان. «كاين شي سخرية كحلة كتر من هادي؟ نفاق أوباما كيغرق التيتانيك». إنها المهزلة. كلما حلت بالعالم فاجعة مميتة أو حادثة مريبة، يتم مباشرة تداول مقاطع فيديو من حلقات السلسلة الكرتونية الأمريكية الشهيرة «عائلة سيمبسون». مقاطع من حلقات يعود تاريخها لسنوات سابقة، يتنبأ فيها المسلسل بالعديد من الأحداث والوقائع. تتناسل الآلاف من نظريات المؤامرة الكونية التي تلقي اللوم على الجهات الخفية. تستخرج جثة الماسونية المتحللة من قبر المنطق. ويتحفنا خبراء الغفلة بتحليلاتهم اللزجة التي تعلق الفشل والغباء على شماعة التآمر. «غرقت الغواصة، علقو الماسونية».

لا أحد يحيك المكائد ضدك «غير تهنا».. التفسير أبسط مما نتخيل. يعتبر السلوك البشري سهلا ممتنعا. فبقدر ما هو معقد ومركب، بقدر ما هو بسيط وساذج ومتوقع. التنبؤ بقرارات طائشة لمجموعة من الأثرياء ليس سحرا أو تنجيما، بل هو قراءة سوسيولوجية في سلوكيات إنسانية معينة، ناتجة عن عوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية محددة. الغباء البشري اللامحدود يساعد على سهولة توقع أسوأ السيناريوهات. تكمن المؤامرة الحقيقية في غياب النساء عن رحلة الغواصة «المنبجرة». غياب يطرح أكثر من علامة استفهام: هل النساء أقل شجاعة من الرجال؟ أم أن النساء أكثر حكمة وتبصرا وتمسكا بالحياة؟ هل البشرية في حاجة إلى المزيد من الهرمونات الذكورية المفعمة بروح المغامرة وحب الاستكشاف؟ أم نحن بحاجة إلى غريزة البقاء الأنثوية؟ بعيدا عن هذه الأسئلة الفلسفية «الحامضة»، نسأل الله أن يرزقنا جميعا «فلوس الغواصة بلا غرق».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى