شوف تشوف

الرأيالرئيسية

تونس والاتجاه للمجهول    

 

 

خالد فتحي

 

تمخضت الديمقراطية التونسية فولدت انتخابات قراقوشية، إذ إن 91 في المائة من التونسيين لم يتوجهوا إلى صناديق الاقتراع. وبذلك يكون الشعب التونسي قد سحب الشرعية عن الجميع، بعدما أدان طبقة النواب والسياسيين الحزبيين، حين صوت على دستور قيس سعيد، قبل أن يتنكر لكاتب الدستور قيس سعيد نفسه بهذه النسبة الضئيلة جدا للمشاركة.

تونس الآن تعيش حالة فراغ رهيبة، حتى أنه لا أحد من الطيف السياسي يمكنه أن ينتشي ويعتبر أنه انتصر على الآخر. إنها هزيمة نكراء لكل النسق السياسي. فالرسائل التي وجهها أبناء ثورة الياسمين بليغة، ولا تستثني أحدا من الطبقة السياسية. أهمها أن الشعب التونسي سئم ومل من هذه اللعبة، بل وأعلن كفره بالساسة والسياسة على السواء.

إنه لشيء محزن أن يكون مصير الثورة التونسية، التي اعتبرت ملهمة لباقي الشعوب بهذا الشكل الدرامي. مؤلم جدا أن تنتهي الأحلام كوابيس، وأن يقارن التونسي بين حالته حين كان يرزح تحت نير المستبد ووضعه بعد الثورة، فيتملكه حنين مفرط إلى المستبد ويندم على «اقترافه» للثورة. مقرف كذلك أن تحول الطبقة السياسية بتهافتها ونزقها وانتهازيتها الثورة إلى ما يشبه «الخطيئة»، بعدما نضب حتى ما كان يضمنه الديكتاتور..

يلتفت التونسي يمنة ويسرة في نهاية 2022، فلا يجد ما يبل به ظمأه للعيش الكريم: رئيس يعيش في القرون الخالية، يتشدق لغة غليظة بدوية يستجلبها استجلابا وبشق الأنفس من عصر النوق والبعير والصحراء القاحلة والسيوف والدروع وديوان البريد الأموي، معتبرا فصاحته دليلا على تطبيقه للديمقراطية الراشدية النقية الصافية، وبرلمان كان دائما حلبة لصراع الديوك وللتنابز والتطاحن.. لم يلبث أن تحول في رمقه الأخير إلى ساحة صراع مفتوحة للنفوذ الإقليمي.

لقد وضع قيس سعيد كل بيضه في هذه الانتخابات، بعدما منح التونسيين دستورا ضمنه كل استيهاماته الدستورية، يستبطن نظاما للحكم هو أقرب إلى الديكتاتورية منه إلى أن يكون رئاسيا كما هو لدى العديد من أمم الأرض. فسعيد، الذي استثمر سوء سمعة البرلمان، وفساد الطبقة السياسية، ليفصل قانون انتخابات لن يمنح تونس سلطة تشريعية وإنما برلمانا دمية للديكور الديمقراطي فقط، قد هيأ فقط لحكم الفرد السلطوي ولعودة الديكتاتور. لذلك كانت هذه الانتخابات دونما رهان لمستقبل تونس، فهجرها الشعب الذي رفض دور الكومبارس.

تردد شيعة قيس سعيد أن الأرقام المعلنة هي الأرقام الحقيقية، عندما يصوت التونسيون بعيدا عن تأثير المال السياسي القذر وعن تدخل الجهات الأجنبية، وبالتالي هم يدينون كل العمليات الانتخابية وكل المسار السياسي لتونس، بعد الاستقلال إلى الآن. ويتهمون أغلبية الشعب في ذمته، بل ويزيدون بأن هذه الانتخابات إنما أعادت المبادرة لمن قاموا فعلا بالثورة، بعدما تخلص الشعب بدستور سعيد من حجر ووصاية الأحزاب المتنطعة. قد يكون في هذا القول جانب من الحقيقة، ولكن أليست الديمقراطية كما يقال هي دولة الأحزاب؟

لم ينجح سعيد في العملية الجراحية التي قام بها للنظام السياسي التونسي. لم تسعفه «معرفته» الدستورية في وضع حد لآلام تونس. قد يكون قيس أصاب التشخيص، ولكنه حتما أخطأ العلاج بعدما تملكته نشوة الحكم، وأثملته خمرة السلطة، فاتجه نحو فرض أبويته للمشهد السياسي. فكونه ترشح بدون لون سياسي، جعله يعتقد أن البرلمان يجب أن يكون على شاكلته برلمانا للأفراد دون تقسيمات حزبية، مجرد نسخة مكرورة للرئيس، كم تظهر بهذه الانتخابات فاقعة هواية الرجل في الحكم وضيق الرؤية لديه. فهل نسير بلدا بدون رؤى وبدون برامج؟ وهل لا تتبلور البرامج إلا داخل جماعات تمتلك نفس القناعات والتوجهات؟ أليست الجماعات في الدولة الحديثة سوى الأحزاب؟ كيف يا ترى غاب كل هذا عن فقيه دستوري، صار فوق ذلك يتربع على أعلى هرم الدولة؟

سيناريوهات كثيرة تنتظر تونس إذن، والمؤكد هو تآكل شرعية النظام، وتزايد عزلته التي ستترسخ أكثر بين أهله وفي محيطيه الإقليمي والدولي، وتراجع الثقة بتونس لدى المنظمات الدولية المانحة. فمن يقرضها في هذه الأوقات العصيبة ببرلمان لم يحصل إلا على ثقة عشر التونسيين؟ إن ما ينتظر تونس مهول حقا، ذلك أن الحياة السياسية قد تجري بعد اليوم خارج المؤسسات الدستورية، حيث قد ينتقل الصراع إلى الشارع، بعد أن لم تحسم الانتخابات مسألة الشرعية. أو تجعل الأحزاب، التي كانت «ظالمة» قبل أن يحيلها سعيد إلى «مظلومة»، من غياب الشرعية قميص عثمان للثورة على سعيد والمطالبة برحيله المبكر، معتبرة أن هذه الانتخابات كانت استفتاء حول الرئيس، وقد رسب هذا الأخير في الامتحان.

ولكن بما أن الجميع وقع في المحظور، فالراجح أن الشعب التونسي سوف يبحث في سيناريو آخر عن سقف يظلله، وعن شرعية يستند إليها، وهنا سوف يتجه إلى نخبة لا يمتد الشك إليها، هي النخبة العسكرية، إلا إذا تكشفت الأشهر المقبلة عن كون سعيد ليس بالفعل سوى واجهة مدنية للدولة العميقة العسكرية.

إنه لمن المفارقات أن يكون سعيد الذي اعتبر ممثلا للثورة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، هو من يضع نقطة النهاية لهذه الثورة، بعد عقد من التخبط واللاجدوى وعدم القدرة على الإنجاز.

نافذة:

سيناريوهات كثيرة تنتظر تونس إذن والمؤكد هو تآكل شرعية النظام وتزايد عزلته التي ستترسخ أكثر بين أهله وفي محيطيه الإقليمي والدولي وتراجع الثقة بتونس لدى المنظمات الدولية المانحة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى