في يوليوز من عام 1830م ظهر الطاعون في إيران، وزحف باتجاه العراق، فطلب «داوود باشا»، حاكم العراق يومها، من طبيب القنصلية البريطانية إعداد برنامج للحجر الصحي، بغية منع الوباء من التقدم نحو بغداد. ولكن كما يقول «علي الوردي»، في كتابه «تاريخ العراق الحديث»، إن «رجال الدين المتزمتين أفتوا بأن الحجر الصحي مخالف للشريعة الإسلامية».
ومن الغريب أن دعاة «الإعجاز العلمي في القرآن والسنة» هذه الأيام، يستخدمون النصوص نفسها، كدليل على أن الإسلام أول من أتى بفكرة «الحجر الصحي»، وهو يدل على أن هناك شيئا آخر غير النصوص يجعل الناس يستفيدون من النصوص.
ويروي «غروفز»، وهو مبشر بريطاني نُشِرَ كتاب له عام 1832م عن الظروف المروعة التي عاشها أهل بغداد، فقال إن الطاعون ظهر في أواخر مارس 1831م وحملت ألف جنازة. وفي أبريل أخذت بغداد تودع كل يوم ثلاثة آلاف ميت، وفي النهاية بلغ الأمر أن ودع في يوم واحد تسعة آلاف ضحية. ولم يبق من يسجل الوفيات، ثم بدأ الناس في التساقط في الشوارع ولم يبق من يدفن. ويذكر غروفز أن أشد ما كان يروع اختلاط صراخ الأطفال الذين ماتت أمهاتهم بزمجرة الكلاب، وهي تنهش المحتضرين.
وليس هذه الفتوى للحجر الصحي إلا طرفا من مأساة تفاعل العقل مع النص.
وعندما طلب سلطان الأستانة من محمد علي باشا القضاء على خطر الوهابية في جزيرة العرب، أرسل ابنه طوسون في حملة عسكرية عام 1811م فشلت، فعززها بحملة جديدة عام 1816م بقيادة ابنه إبراهيم، الذي سلط المدفعية والسلاح الحديث على الوهابيين فأحرقهم، وفي النهاية دخل الدرعية عاصمتهم، وعقد مؤتمرا فيها في الجامع الكبير حضره 500 من علماء الوهابية ورهط من علماء الأزهر، من أجل حل الخلافات العقائدية بين الطرفين. وبقي إبراهيم باشا ساكتا طيلة ثلاثة أيام وهو يراقب النقاش، وفي النهاية شعر أنه في طريقه إلى نفق مسدود، كما يحصل حاليا في نقاشات الشيعة والسنة، فحلها بطريقته العسكرية. فتوجه إبراهيم باشا إلى شيخ الوهابيين بالسؤال: هل تؤمن أن الله واحد، وأن الدين الصحيح واحد هو دينكم؟ قال: نعم. فالتفت إليه وقال: أيها الخنزير هل تعلم أن الجنة عرضها السماوات والأرض؟ فلم يكن له بد من الاعتراف. قال: «إذا كان عرضها السماوات والأرض كما تقول، وإذا وسعتك وأمثالك رحمة الله فدخلتم الجنة، ألا تكفي شجرة واحدة من أشجارها لأن تظلكم جميعا؟ فلمن إذن بقية الدار؟»، فسكت العالم الوهابي. وختم إبراهيم باشا النقاش بحفلة دموية، فقطع رقاب الخمسمائة، ودفنهم في صحن المسجد في مقبرة جماعية.
وفي تركيا حصل قريب من هذا، عندما جاء السلطان محمود الثاني إلى الحكم عام 1808م، بعد أن تم خلع السلطان سليم الثالث وقتله. وكان السبب هو تحديث الجيش، فاستنكر الإنكشارية وقالوا: «إن ولي الله الحاج بكتاش قد بارك جماعة الإنكشارية عند تأسيسها، ودعا لهم بالنصر الدائم، ولهذا فإن بركته ودعاءه يغنيان عن كل تعليم». واعتبروا أن التحديث بدعة وكل بدعة ضلالة. وحاول محمود الثاني الإصلاح، فالتهبت إسطنبول بالحرائق وشغب الإنكشارية، فصبر عليهم 18 عاما حتى جاء أجلهم عام 1826م، فسلط عليهم قره جهنم، أي جهنم السوداء، بالمدفعية فحصدهم ولم يبق منهم أحدا. ثم استدار على تكايا البكتاشية، فاجتمع برجال الدين واستخرج فتوى بأن تعاليم البكتاشية مخالفة للشريعة الإسلامية، فهدمت التكايا وسويت بالأرض. وأخذت الإشاعات تدور حول زندقتهم واستهانتهم بالقرآن، وأن الأباريق في زواياهم كانت مغطاة بأوراق من المصحف الشريف.
وفي النزاع اللاحق الذي حصل بين محمد علي باشا ومحمود الثاني، انعكست الأدوار من جديد، فبعد أن ساعده في حملة المورة ضد اليونان عام 1827، ودمر الأكروبول في أثينا طالب محمد علي بمكافأته ببلاد الشام. فلما طال انتظاره، فضل أخذها بالسيف وزحف حتى حافة الأستانة، حتى اضطر الخليفة العثماني إلى مصالحته، بمساعدة القوى الغربية في كوتاهيه عام 1833م، والشاهد في الموضوع أن السلطان العثماني عقد مجلسا دينيا لإصدار فتوى دينية ضد محمد علي باشا، فما كان من الأخير إلا أن أحضر علماء الأزهر ليكتبوا له ردا شرعيا. وكان جوابه على الفتوى العثمانية التي أفتت بأن: «يجرد من رتبه ويلقى لوحوش البرية وطيور الفلا»، أن قال: «إن علماء الأزهر أحفظ للدين، وأعرف بأحكام القرآن الكريم من جميع علماء الإسلام، ثم إنني لم أطلب منهم شيئا، ولكن ما فعلوه إنما هو دفاعا عن حرمة الدين من أن تنتهك».
وفي حرب الخليج الأخيرة تكررت المأساة بين مؤتمرين عقدا في جدة وبغداد، بالنتائج نفسها. فهذه هي الطبيعة البشرية، وهكذا توظف النصوص الدينية. وكل يدعي أن الله منحاز إليه، والويل لمن يكشف الغطاء عن هذه اللعبة.
خالص جلبي