تنشر لأول مرة مذكرات نارية نقلها باحثان أمريكيان عن 20 راهبا فرنسيا ممارسات فرنسا ضد الإنسانية سنة 1952
الغلاف يتضمن وجها لرئيس الدير الفرنسي، بينما العنوان يتحدث عن أكثر من رجل دين مسيحي في المغرب. «Benedictine And Moor» كتاب نادر طُبع لأول مرة، وكانت الأخيرة أيضا، في بداية سنة 1960 بالولايات المتحدة الأمريكية، أي بعد استقلال المغرب بأقل من خمس سنوات.
يونس جنوحي
كانت مضامين الكتاب وقتها نارية، إذ تناولت علاقة الإقامة العامة الفرنسية بالكنيسة، والجرائم التي مورست ضد الإنسانية في المغرب.
هذه المذكرات لم يكتبها أصحابها، وهم 20 رجل دين مسيحي من كنيسة صغيرة في جنوب فرنسا سنة 1952، وإنما كتبها باحثان أمريكيان هما، «بيش دونفي» و«بيتر ويليام» نقلاها على لسان رئيس هؤلاء الرهبان، الذي كان على قدر كبير من الحكمة والتعقل.
تحكي هذه المذكرات كيف اكتشف هؤلاء العشرون، القادمون إلى المغرب بحرا ونزلوا للمرة الأولى في ميناء الدار البيضاء، أن المغاربة لم يكونوا يختلفون في شيء عن سكان الجنوب الفرنسي، الذين يجاورون المغرب من خلال ضفة البحر الأبيض المتوسط.
كانت مفاجأتهم كبيرة، خصوصا وهم يقفون بأنفسهم على الكذبة الإعلامية الفرنسية، التي صورت المغاربة في أوربا طيلة سنوات الاستعمار على أنهم شعب من «الهمج» والإرهابيين، الذين جلبت إليهم فرنسا الحضارة، فردوا إليها الجميل بقتل الفرنسيين.
حتى أن المحاكم وقتها في منطقة «أزرو» الجبلية التي توجه إليها هؤلاء الرهبان لإقامة ديرهم، كانت تعج بالمغاربة الذين واجهوا فرنسا بالسلاح وحكم عليهم هناك بالإعدام، ما بين سنتي 1951 و1953.
قصص كثيرة للإنسان دفنت في تلك الأرض، دون أن يسجل أحد تلك الفظاعات.
وها هي هذه المذكرات النادرة التي ننشر أقوى مضامينها للمرة الأولى للرأي العام الوطني، تلخص كيف كانت الحياة اليومية لمغاربة منطقة الأطلس، وكيف كان أيضا يعيش رجال الدين المسيحيون، الذين عرف عنهم الاشتغال في تأسيس الكنائس ونشر الدين المسيحي في المغرب، سيما في جبال الأطلس، وسط المغاربة.
جاء في هذه المذكرات أن الأعيان والسياسيين المغاربة كانوا أيضا يبحثون لأنفسهم عن موطئ قدم وسط تلك الأحداث، خصوصا وأن القصر كان يعيش أزمة كبيرة مع الحماية الفرنسية، حيث بدأت فرنسا في سحب بساط السلطة من الملك الراحل محمد الخامس، لأنه كان يؤازر الحركة الوطنية.
كانت الكنيسة الفرنسية تراقب كل هذه الأحداث عن بعد، وفضح هؤلاء الرهبان في مذكراتهم المنقولة على لسانهم كيف أن الجيش الفرنسي ممثلا في ضباط متسلطين، منعهم من الخوض في الحياة العامة للمغاربة، والاكتفاء بالخلوة في ديرهم المنسي الذي بناه مغاربة بسواعدهم في إطار ما كان يسمى وقتها أحكام الأشغال الشاقة ضد السجناء المغاربة، الذين زج بأغلبهم في السجون، فقط لأنهم احتجوا على الوجود الفرنسي في المغرب.
تهمة التنصير.. ملف نشر المسيحية في جبال الأطلس
كان هؤلاء الرهبان العشرون قد توجهوا من الدار البيضاء إلى الأطلس، نواحي منطقة أزرو، وبالضبط في منطقة «تومليلين» القروية، حيث كان السكان يعانون من تسلط ثكنات الجيش الفرنسي عليهم، وتقييد حريتهم في العيش والتنقل، لاحترازات أمنية فرضها الجيش الفرنسي في ربوع الأطلس، واستقروا بها لبناء دير لهم.
لكن ما الذي جاء بهم من منطقة الجنوب الغربي الفرنسي المطلة بقراها ومناطقها الخضراء على المحيط الأطلسي، لكي يستقروا في منطقة نائية لا تتوفر فيها شروط العيش العصري المريح؟
خصوصا وأنهم جاؤوا إلى المغرب في سنة عصيبة عاشت فيها البلاد على صفيح ساخن، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
طبعت هذه المذكرات بكمية محدودة جدا بالولايات المتحدة، ولم تكن طباعتها في فرنسا لتتم، لأن مضامينها كانت تضرب السلطة الفرنسية، وتتهمها بممارسة سياسة قيدت إنسانية المغاربة وآدميتهم، وتفضح أيضا معاداة الجيش الفرنسي للكنيسة، خصوصا وأن الرأي العام في فرنسا كان محافظا، وجل المناطق الجبلية كانت مرتبطة بقوة بالكنيسة في معظم دول أوربا وليس فرنسا فقط. ومن شأن تلك المذكرات إن انتشرت في فرنسا، أن تؤلب الرأي العام ضد المؤسسة السياسية والعسكرية في فرنسا، سيما وأنها، أي المذكرات، كشفت الوجه الآخر للضباط الفرنسيين الذين مارسوا سادية غير مبررة ضد المغاربة، وضيقوا على الأعمال الخيرية التي كانت تقوم بها الكنيسة هناك.
وهذا ما فتح الشكوك حول المساعي الحقيقية لهؤلاء الرهبان، الذين اختاروا العزلة والإقامة في قرية «تومليلين» بالأطلس. إذ إن الشكوك حامت حول النشاط الحقيقي لهؤلاء الرهبان، واتهموا في المغرب والجزائر أيضا بالقيام بأعمال تنصير في القرى المنسية والمعزولة، حيث تم رصد حالات كثيرة لرهبان يوزعون الأناجيل ويلقنون السكان الذين كانوا يعتنقون الدين الإسلامي تعاليم الكنيسة، ويدعونهم للحاق بالمسيح للخلاص، مستغلين عدم هيكلة الحقل الديني في المغرب، خلال بداية الخمسينيات.
لكن والحالة هذه، يصعب الجزم بقيام هؤلاء الرهبان العشرين بأعمال تنصيرية في منطقة أزرو، خصوصا أنهم يعترفون في هذه المذكرات بأن المؤسسة العسكرية ضيقت كثيرا على أنشطتهم التي كانت موجهة أساسا إلى الفرنسيين المقيمين في الأطلس، وحاول الضباط جاهدين حصر أنشطة هؤلاء الرهبان داخل جدران الدير الحجري الذي بني لاستقبالهم، حتى لا يخوضوا في الحياة العامة.
ربما طبيعة الهيمنة العسكرية على الحياة العامة في المنطقة، جعلت المسؤولين يرغبون في ألا تعلم الكنيسة بحقيقة ما كان يجري من إبادة ضد السكان الأصليين للأطلس، لكن الواقع أن هؤلاء الرهبان، حسب ما نقلته هذه المذكرات، كانوا منشغلين بل منغمسين في الواقع المغربي.
إذ إن رئيس الرهبان الذي كان يشرف على الدير وصومعته الحجرية، كان يستقبل ويلتقي بالوجوه المعروفة في المنطقة، وأولهم باشا صفرو، الذي سوف يصبح أول وزير أول بعد استقلال المغرب، ويتعلق الأمر بامبارك البكاي، بالإضافة إلى كل من المهدي بن بركة وعلال الفاسي والمحجوبي أحرضان، الذي كان أهم شخصيات الأطلس التي تهيمن على الحياة السياسية للقبائل المغربية، التي أعلنت ولاءها دائما للسلطان محمد بن يوسف ضد الوجود الفرنسي بالمغرب.
++++++++++++++++++++++++++++++++
قصة حلول «رهبان» فرنسيين بـ«تومليلين» ناحية أزرو
في سنة 1952 أبحر 20 راهبا «بندكتيا» من الجنوب الغربي الفرنسي، وبالضبط من منطقة En Calcat صوب الدار البيضاء. لكنهم فور وصولهم توجهوا إلى منطقة أزرو في الأطلس، وحاولوا الاستقرار في القرى المحيطة، خصوصا «تومليلين» التي وقع في حبها أغلبهم.
لماذا يتوجه فريق من الرهبان إلى المغرب في تلك السنة الساخنة، رغم أنهم كانوا يعيشون في «دعة» وسلام داخل منطقة آمنة وبعيدة عن أجواء الاحتقان التي عرفتها فرنسا، بسبب الحرب العالمية الثانية؟ بل إن الرهبان والقساوسة ورؤساء الدير المسيحي، كانوا في مأمن من الغارات العسكرية التي وقرت في كثير من الحالات دور العبادة. وحتى في المناطق الفرنسية التي تضررت فيها دور العبادة بالقصف، فقد تم إشعار الرهبان بإفراغها على الفور.
وهكذا فإن توجه هؤلاء الرهبان إلى المغرب في ذلك السياق كان مخاطرة كبيرة بحياتهم أولا، وامتحانا لمدى تقبل المغاربة، خصوصا في منطقة الأطلس التي عرفت عصيانا كبيرا وانتفاضات ضد الجيش الفرنسي، للوجود الديني الفرنسي في المغرب.
خصوصا وأن هؤلاء الرهبان قد حافظوا على زيهم الديني وكانوا من أوائل من اشتغلوا على تأسيس كنائس صغيرة في منطقة الأطلس، والإشراف على الطقوس الدينية المسيحية للفرنسيين الذين اختاروا الاستقرار في المغرب.
جاء في كتاب «مغامرة مسيحية في المغرب المسلم» أو «الراهب والمغاربة»، ما يلي: «جاء الرهبان إلى المغرب في وقت غير مناسب وسيئ. البلاد كانت بصدد الانتفاضة ضد فرنسا، وفي الحقيقة كان المغرب يقاسي من أجل استقلاله، كما أن أزمة الوعي لدى الوطنيين الأوائل كانت تنمو بالموازاة مع ما كان يحدث في الجزائر.
لكن هؤلاء الرهبان قد جاؤوا أيضا في وقت مناسب من ناحية أخرى. كما قال أحد المغاربة: «إن مجيء هؤلاء الرهبان يؤكد لنا أن الفرنسيين ليسوا جميعا أشرارا».
وقد برهن هؤلاء الرهبان أن الفرنسيين ليسوا جميعا من الأشرار، بطرق مختلفة. إحدى هذه الطرق أنهم كانوا فوق التعليمات الفرنسية، التي تقطع كل سبل التواصل مع السجناء المغاربة. فقد كانوا يوزعون الشاي على المعتقلين المغاربة في سجون الجيش الفرنسي. وانتشرت عنهم هذه المقولة: «الرهبان في تومليلين رجال الله! إنهم مسلمون حقيقيون!».
أما كيف وصلوا إلى تلك القرية أساسا، فقد كان الأمر مرتبطا بإرادة الإدارة الفرنسية التي سمحت لهم أساسا بالتنقل إلى المغرب.
فقد كانت الدار البيضاء تعرف وجود كنائس ودور للعبادة يشرف عليها رجال دين فرنسيون، كان قد سبق لهم الانتقال إلى المغرب بمحض إرادتهم. وهؤلاء كان من بينهم من يحمل قناعات استعمارية فرنسية، وكافأتهم الإدارة بالسماح لهم بالاستقرار في المغرب، وفق امتيازات مالية واجتماعية.
أما الرهبان العشرون الذين جاؤوا بناء على تعليمات الكنيسة هناك، فقد كانت قصتهم مختلفة تماما. إذ إنهم كانوا في خدمة برنامج للكنيسة يقترب من برامج التنصير التي عرفتها شمال إفريقيا، خلال الحرب العالمية الثانية. وهذا ما يفسر توجههم إلى الأطلس.
الباحثان، «بيش دونفي» و«بيتر ويليام»، اللذان جمعا مادة الكتاب من خلال ما حكاه لهما واحد من هؤلاء الرهبان العشرين، خلصا إلى أن اختيار منطقة أزرو مرتبط بوجود «كوليج أزرو» الشهير في المنطقة، واستقرار جالية من الفرنسيين كانت بعيدة عن الاحتقان في الدار البيضاء. إذ إن تلك الجالية الفرنسية في الأطلس كانت جميعها مُدرسين وفلاحين، ولم يكن من بينهم أطر عسكرية. فقد كان العسكريون الفرنسيون يستقرون في الثكنات، وهو ما جعل مقام هؤلاء الرهبان في المنطقة أمرا مقبولا، منذ البداية.
الأب مارتن يتذكر: فيلاليون أُجبروا على بناء صومعة الدير
«أتذكر اليوم الأول، يقول الأب مارتن. كنا ننتقل من مخيم صيفي. كان من بين من يشتغلون على تحويل المكان إلى دير، عمال من منطقة «تافيلالت»، وصانعو الآجر من مكناس، ونجارون من منطقة أزرو. كانوا من أصول مختلفة، بعضهم كانوا سودا ينحدرون من سلالة عبيد جلبوا إلى المغرب من الجنوب. وآخرون كانوا شقرا وأعينهم زرقاء. لكن أغلبهم كانوا بصفات محلية لأغلب سكان حوض البحر المتوسط.
أحد الرهبان الذين كانوا معنا، واسمه «دوم فولكران» أصوله من «لودفي»، وهي قرية صغيرة في جنوب فرنسا، لاحظ أن هؤلاء العمال كانوا يرددون الحكم والأمثال والقصص الشعبية نفسها التي يرددها سكان قريته الأصلية. وهكذا أحسسنا أننا لم نغادر عالم البحر المتوسط قط، وأحسسنا أننا لسنا غرباء عن المغرب. وحده لباس جيراننا ولغتهما العربية والأمازيغية، يذكروننا أننا لسنا في فرنسا.
وما كان مفاجئا لنا، هو احترامهم الكبير لنا كرجال دين واعتبارهم لنا «أولياء». كانوا ينظرون إلينا بقداسة كلما استغرقنا في طقوس العبادة الصامتة، ويحاولون الاشتغال في صمت حتى لا يُزعجوننا. كانوا أناسا مرهفي الحس.
لقد كانت هذه الانطباعات الأولى حافلة بالمعاني».
يسرد هذا «الأب» تفاصيل أخرى مرتبطة بالسكان المحليين، من بينها أنهم كانوا على ألفة مع الفرنسيين، وسبق لهم الاشتغال في مشاريع أخرى لكنها كانت عسكرية. والمثير أنهم لم يكونوا يجرون أي اتصال مع الفرنسيين، باستثناء ملاك الضيعات الفلاحية المنتشرة في المنطقة.
المثير أيضا أن بعض هؤلاء العمال سبق إجبارهم بالقوة على الاشتغال في بناء منازل للفرنسيين، وصاروا على ألفة مع عاداتهم، سواء الغذائية أو اليومية، بما فيها طقوس العبادة.
في منطقة الأطلس دائما، جرت مجموعة من الإجراءات الإدارية الفرنسية التي حولت المغاربة إلى عمال بالمجان في مشاريع الفرنسيين، سواء الحكومية أو تلك التي تتعلق بمنافع خاصة لمواطنين فرنسيين مستقرين في المغرب.
وفي حالة هؤلاء الرهبان، لم يتم طرح أي سؤال عن الطريقة التي جمع بها كل هؤلاء العمال من مختلف المناطق، لكي يعملوا في بناء الدير الذي استقر به هؤلاء الرهبان العشرون. لا شك أن الإدارة الفرنسية جمعت العمال بطريقة جماعية، حيث إن الأرشيف الفرنسي الرسمي يحفل بتفاصيل كثيرة من هذا النوع، تؤكد أن العمال المغاربة في مشاريع فرنسية خاصة، كانوا يُجمعون بالقوة ويجبرون على السفر من مدنهم وقراهم، للاشتغال لأشهر قد تمتد إلى سنوات في بناء الإدارات والتجمعات الفرنسية، سيما في منطقة الأطلس. وكثيرا ما كان يتم جمع هؤلاء العمال من الأسواق الأسبوعية، حيث يشرف العسكريون على اختيارهم حسب لياقتهم البدنية، ويُرحلون في شاحنات دون أن يسمح لهم حتى بتوديع عائلاتهم.
عندما غنى الرهبان ترانيم على شرف زيارة البكاي سنة 1952
جاء في هذه المذكرات أيضا: «فرح الأب مارتان كثيرا بزيارة سي البكاي. هذا الليوتنان كولونيل في الجيش الفرنسي فقد ساقه في الحرب، جاء مرتديا جلبابه المغربي وبلغته الجلدية وقبعة فاسية حمراء. في زيارته الأولى من نوعها إلى «تومليلين»، أمر الأب مارتان الرهبان بتلاوة ترانيم على شرف الباشا. مُنح الباشا مكانا شرفيا، على يمين رئيس الدير، وهو المكان الذي كان يحفظ لكبار القساوسة. بالمقابل، عندما زار الأب مارتان الباشا البكاي في صفرو، جلس في المكان الشرفي أيضا وقدمت له أفضل قطع اللحم.
عسكريون هددوا الرهبان لكي لا يخوضوا في السياسة
«أرى أنكم أيها الرهبان تخلطون عملكم بالسياسة»، قالها الكولونيل «كليسكا» لـ«الدوم جبريل»، بعد أن أوقفه في الشارع بأزرو. كان هذا خلال الأسبوع الأول من يوليوز 1953.
كافح راهب «تومليلين» لكي يحافظ على هدوء أعصابه، وهو يسأل الضابط ماذا يقصد بكلامه؟
-«أنت تعلم جيدا ما أعنيه أيها الأب. رهبانك يقدمون الشاي للسجناء السياسيين، الذين يعملون في بناء القنطرة أمام الدير».
-«لقد جاء أحدهم وطلب منا الماء..».
-«.. وأنت منحتهم الشاي. من طلب منك هذا؟».
-«رئيس الدير. طلب منا أن نعاملهم كضيوف».
-«ضيوف! لماذا في نظرك أضع حراسا حولهم؟».
-«أوه، لكننا قدمنا الشاي للجنود أيضا». ابتسم الراهب مجاملة فقط لـ«كليسكا».
-«كأس شاي. ملعقة مملوءة بالشاي فقط إذا قدمت لواحد من سجنائي فإنها تدخل في السياسة، تدخل من النوع الذي يُؤذينا».
ابتسم الراهب «الدوم دونيس» عندما علم بأمر المحادثة. ابتسم في وجه الرهبان وقال: «أنا غاضب منك أبتاه». أدرك الأب جبريل، بابتسامة أو بدونها، أنه يُعاتب؟
-«يجدر بك ألا تدخل في نقاشات الشارع الجانبية، لا تقم بهذا الأمر مرة أخرى».
كانت هذه الصورة التي نقلها الباحثان في هذه المذكرات المشتركة، واحدة من المغامرات التي عاشها الرهبان العشرون مع بعض أطر الجيش الفرنسي.
وأوردا أيضا قصة طريفة لأصغر هؤلاء الرهبان العشرين مع ضباط من الجيش، كانوا يخرجون من حانة وضعت رهن إشارة الضباط غير بعيد عن أماكن الثكنات العسكرية المتفرقة على رؤوس جبال الأطلس، حيث كانت الأعلام الفرنسية ترفرف فوقها عاليا. فقد استوقف هؤلاء العسكريون الأب الذي كان بصدد إطعام بعض الكلاب الضالة، قرب سور عتيق متهالك، وحاولوا السخرية منه رغم أن جل أطر الجيش كانت متدينة، لكن كان من بينها أيضا من كانوا يستهزئون بالكنيسة ورجال الدين الفرنسيين الذين جاؤوا إلى المغرب.
حاول هؤلاء السخرية من الراهب معلقين على بعض الإشاعات التي تقول إن دور العبادة في المغرب تعاني من أزمة تمويل خانقة، فإذا بالراهب يطعم الكلاب المتشردة في الشارع.
لكن الراهب رغم حداثة سنه مقارنة مع بقية الرهبان، إلا أنه كان سريع البديهة ولقن هؤلاء الجنود درسا في الإنسانية، عندما أخبرهم أن البشر سواسية، وأن الجيش أيضا يعيش أزمته الخاصة، وسألهم ماذا تناولوا للعشاء؟ ليتبادلوا بينهم نظرات صامتة. فقد كان عشاؤهم أيضا دليلا على الأزمة التي كانت تمر بها المؤسسة العسكرية الفرنسية وقتها، لولا المعونات الأمريكية لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
وصل صدى قصة هذا الراهب الصغير إلى رئيس الدير وإلى ضباط كبار في الجيش الفرنسي بـ«أزرو»، وكان تعليق رئيس الدير مشابها للقصة الأولى التي أوردناها. فقد لامه كثيرا على «نقاشات الشارع»، التي دخل فيها مع هؤلاء الجنود الطائشين.
لكن هذا لا يعني وجود قطيعة بين الكنيسة والجيش، فقد كان الرهبان حاضرين في كل المناسبات الرسمية التي تقيمها الإدارة الفرنسية في المغرب، كما أن الكنيسة صمتت كثيرا عن ممارسات ضد الإنسانية مورست ضد المغاربة. ولم يكن يملك هؤلاء الرهبان أمامها سوى الصمت، لأن وجودهم في المغرب كان من أجل تسهيل ممارسة الجالية الفرنسية لشعائرها الدينية، وما كلام الكولونيل الفرنسي سوى تأكيد على هذا الطرح، إذ استكثر على هؤلاء الرهبان حتى مبادرات منح كؤوس الشاي للسجناء المغاربة المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة.