تلكم الجيفة المسماة «حياة»
مؤلم أن نخرجهم من قلوبنا أطباقا باردة.. وجثثا هامدة.. بعد أن كانوا العبق والدفء والحياة..
أتحدث عن توائم الروح.. الذين اخضرت بهم أيامنا.. وتزينت بهم ملامحنا..
الذين تركوا عالمنا أفضل مما وجدوه.. لم يأخذوا منا أجرا ولا شكورا..
ولأنهم مرتهنون للعدم.. رحلوا جميعا.. جميعا..
الفراق والوداع يتيمان لا أب لهما.. مشردان لا بيت لهما.. ضعيفان لا ناصر لهما..
هما حرقة تتمشى فوق الضلوع.. وجمرة تكوي القلوب.. وحشرجة تذيب الأنفاس.. ورعدة تلوك الروح.. تلويحة الوداع هي جرح راعف من خاصرة الحنين.. هي تلك الإشارة الصماء البلهاء التي تبصق برعونة كل اللحظات الثمينة جانبا..
وكأننا ننشر قلوبنا ببطء.. وكأننا ننحر أوردتنا عمدا.. نرفع أيادينا عاليا ثم نحركها يمنة ويسرة في تتابع رتيب وإيقاع سقيم..
بأقدام ممزقة نقف بثبات وجلد زائفين نتظاهر بالتماسك والشدة والبأس..
نشد قاماتنا رغم صفعات الحنين وعصف الذكريات.. كخيالات الكراكيز المصفرة.. وفزاعات الحقول الهشة التي تكابر وتقف بساق واحدة عرجاء.. رغم ركلات الرياح التي تفتت أعضدها ومعاول الفناء التي تهد مناكبها..
مؤلم أن يرحلوا تاركين خلفهم قلوبا وأكبادا مستعرة..
عند الوداع نستحيل أطفالا وديعين.. كتلا هلامية مغموسة بالدمع.. أصغر كلمة قد تجرحنا.. أبسط موقف قد يهزنا.. أضيق عتاب قد يكسرنا..
نذيب شموع القلب هدرا أمام أبواب موصدة.. نعلق أعمارنا على شماعة الغيب.. ثم نندب حظوظنا كأطفال أشقياء..
في اليد ستون حبيبا.. يطمرهم التراب والردى.. وأعيننا مصلوبة على شجرة الوقت.. كدمى غبية.. ننشد حبيبا بعيدا مضى ولن يعود !
كم نحن مثيرون للشفقة في تشبثنا..!
كمريض جذام يرقب دامعا أطرافه وهي تتساقط واحدة تلو الأخرى ببطء مستفز.. بينما يعض يائسا بما تبقى له من نواجذ تلكم الجيفة المسماة حياة..!
نحن أكداس من لحم ودم محملين بأوزار حياة «ذهبت مع الريح»..
من عبثيات هذه الحياة وتراجيدياتها المريرة.. أن الذين نبغضهم بكل جوارحنا وتبتهل ألسنتنا ويلا وثبورا عليهم.. متى ما سكنت جوارحهم.. وووريت أجسادهم التراب.. لانت أفئدتنا.. واستحال ذاك الكره البتار بين عشية وضحاها عاطفة جياشة وحبا عميقا بدافع الشفقة والذنب..!
وكأني بالموت لاعب خفة ماهر «يشقلب» القلوب بمنجله الرهيب متى ما حل وارتحل!
أيها الموت..
إني أكرهك فهلا متّ قليلا لأحبك..!