شوف تشوف

شوف تشوف

تلاميذ في لوائح سوداء

صدر قبل أيام حكم قضائي لصالح آباء بعض التلاميذ ضد مدارس خصوصية رفضت منح أبنائهم شهادات المغادرة ليتمكنوا من تسجيلهم في مدارس أخرى. هكذا ورغم الوساطات التي قامت بها الأكاديميات الجهوية للتربية لا تزال بعض هذه المدارس مصرة على ابتزاز الأسر، فقررت بشكل واضح ومعلن اتخاذ التلاميذ رهائن لديها، لا هم بالمسجلين لديها ولا هم بالمغادرين، بل معلقين، لأن إعادة تسجيلهم في هذه المدارس نفسها متوقف على دفع مبالغ كبيرة عن الشهور الأربعة الماضية، فضلا عن رسوم التسجيل.
وإن كان بعض الآباء قد تشجعوا وأوصلوا ملفات ابتزازهم إلى القضاء فإن آلاف الأسر تعاني في صمت، خصوصا وأن العديد منها لا تزال تتخبط من أجل العودة إلى مستوى حياتها الاقتصادية السابقة، بل إن الوضع الوبائي حاليا يهددها بالإفلاس التام لكون العودة إلى تطبيق إجراءات الحجر الصحي الموضعي مرة أخرى مطروحة أكثر من أي وقت مضى، مثلما حدث في طنجة الآن، ومدن أخرى مرشحة للإجراءات ذاتها.
نحن الآن أمام معضلة أخلاقية وقانونية، أخلاقية لأن تحركات بعض أرباب هذه المدارس تصل إلى درجة الجريمة الدستورية، لأنها تمس في العمق بالحق في التعليم. والفيديو المسرب من اجتماع عن بعد يهدد فيه أحد هؤلاء زملاءه من أرباب المدارس الأخرى بقبول تسجيل تلميذ ينتقل من مدرسة خاصة، دليل على أن الأمر يتعلق بدعوة لثقافة تنتمي إلى ثقافة جماعات الضغط، حيث يتم وضع أسماء التلاميذ الذين لم يدفع آباؤهم المبالغ المطلوبة في قائمة سوداء يتم تقاسمها في ما بينهم، وحتى إذا استطاع أحد التلاميذ الحصول على شهادة مغادرة فإنه لن يجد مدرسة خاصة تستقبله، بحجة غياب مقعد، مع أن الحقيقة غير ذلك.
قد يقول قائل وما الحاجة لنقله من مدرسة خاصة إلى أخرى، ولا يتم تسجيله في مدرسة عمومية؟
الجواب عن هذا السؤال يوجد في التوزيع الترابي غير العادل وغير المتوازن لهذه المدارس. ففي مناطق تابعة لجهات الدار البيضاء والرباط ومراكش وطنجة قد تحتاج إلى خريطة لتجد مدرسة عمومية ابتدائية، وقد تقطع كيلومترات لتجد ثانوية، لكن في المقابل لا يخلو شارع وحي سكني من مدرسة خاصة. بمعنى أن نقل تلميذ يدرس مثلا في ثانوية خاصة بمقاطعة البرنوصي نحو ثانوية عمومية قد يتطلب منه ساعات تنقل يوميا، لكون وتيرة نمو القطاع الخاص تتجاوز بحسب إحصاءات رسمية وتيرة 400 في المائة سنويا، وهذا الانتشار مقرون بتمركز غير معقول، سبق للمجلس الأعلى للتعليم أن وقف عنده في تقرير خصصه للقطاع الخاص.
فإذا أخذنا مثلا جهة الرباط سلا القنيطرة، سنجدها تحتل المرتبة الأولى من حيث الإقبال على التعليم الخصوصي، حيث تصل نسبة تلاميذ المدارس الخصوصية في التعليم الثانوي 11 في المائة، أي ضعف المعدل الوطني، والنسبة نفسها تقريبا في التعليم الإعدادي، لكن توزيع مدارس هذين المستويين التعليميين يعرف تمركزا في الجماعات الحضرية الغنية، كأكدال والرياض مثلا، أي الجماعات التي تصنف وفق مؤشرات التمدرس مع دول متقدمة تعليميا كإيسلندا بنسبة تصل إلى 10 سنوات من التمدرس. فيما وعلى بعد 100 كلم شمالا من الرباط، وتحديدا داخل الجماعات القروية للغرب، سنجد أن نسب التمدرس تنخفض إلى أقل من سنة، مما يجعلها تصنف دوليا إلى جانب دول كالصومال وجيبوتي. وفي هذه المناطق لا توجد إطلاقا إعداديات وثانويات خصوصية، وأقصى ما تم إنجازه هو بضع مدارس للتعليم الأولي هي عبارة عن منازل بدون مرافق مناسبة.
الوجه الأخلاقي والقانوني كما قلنا لهذا الوضع، هو أنه يفترض أن تتحمل هذه المدارس المستفيدة من ريع تربوي حكومي ممتد لسنوات طويلة جزءا من تكلفة تعميم التعليم، وذلك بتخصيص نسبة من أرباحها السنوية لهذا الغرض. لكن هذا لم يحدث قط، إذ أقصى ما يحدث هو أن تنظم هذه المدارس لأولاد الفشوش رحلات استجمام بحافلات فخمة نحو بعض هذه الجماعات القروية، يوزعون فيها الشكلاطة والحلويات على الأطفال العراة والحفاة، تحت مسمى تنمية الحس الإنساني والتضامني.
إذن، فهؤلاء لم يخلوا فقط بواجبهم القانوني بالمساهمة في مجهودات الدولة لتعميم التعليم، بل ها هم يرتكبون المحظور، ويبتزون الأسر ويأخذون التلاميذ كرهائن.
بعض المتحدثين باسم أرباب التعليم الخصوصي يهددون بتشريد مستخدميهم ومربيهم في حالة عدم حماية الأكاديميات لعملية ابتزازهم للأسر، وبعض مديري الأكاديميات يتلقون اتصالات يومية من هؤلاء يطلبون فيها تسليمهم شهادات الباكلوريا لاستعمالها في ابتزاز الأسر، وحجتهم في تبرير هذا السلوك الإجرامي هي أن المدارس الخصوصية الصغرى والمتوسطة معرضة للإفلاس، لكن الواقع يؤكد غير هذا تماما.
فما نلاحظه من خلال تقص مباشر، هو أن المدارس الخصوصية الصغيرة والمتوسطة استطاعت التوصل لحل وسط مع الأسر، إما بتخفيضات مهمة أو تقسيم المستحقات إلى أقساط تدفع بالتقسيط المريح، فيما المدارس الخاصة الضخمة، أي تلك المدارس التي يمكن لأصحابها عدم الرد على اتصالات هاتفية يتقلونها من مدراء أكاديميات، ولنا أن نتصور من هم ومن يحمي ظهورهم. هذه الفئة هي التي تقود الابتزازات الآن، ابتزاز الأسر وتهديد الزملاء بعدم قبول أي تلميذ يَفِد إليهم. وإذا استسلم مدراء الأكاديميات لضغوطات هؤلاء، وسلموهم شهادات الباكلوريا، كما جرت العادة في السنوات الماضية، فإن ما يفوق 10 في المائة من مرشحي الباكلوريا البالغ عددهم نصف مليون تقريبا مُقبلون على كارثة حقيقية، يمكن أن تسبب حوادث درامية قد لا تقف عند القضاء، لكونهم سيجدون أنفسهم ضحايا أكبر عملية حجز الرهائن في تاريخ التعليم المغربي. ففي جهة الرباط تفوق نسبة التلاميذ المعنيين بهذا 15 في المائة وجهة الدار البيضاء تصل لـ18 في المائة. أي أننا نتحدث عن آلاف التلاميذ سيجدون أنفسهم رهائن عملية ابتزاز تربوي.
بات من المؤكد الآن أن الدخول الدراسي القادم لن يكون عاديا إطلاقا إذا لم يتم حل هذه المشكلة. صحيح أن قادة ومقربين نافذين من أحزاب الحكومة يتحكمون في ملف التعليم الخصوصي، سيما في الجهات الكبرى التي تستقطب أعدادا كبيرة من التلاميذ، لكن واجب الحكومة والوزارة الوصية يفرض عليهما الاجتهاد لحل المشكلة، ضمانا لحقوق التلاميذ في متابعة دراستهم على الوجه المطلوب، وتيسيرا لانتقالهم بين المؤسسات وفق ما هو معمول به في هذا الشأن، ودرءا للآثار السلبية المحتمل انعكاسها على مسارهم الدراسي.
ليس هناك أسوأ من رهن شهادة المغادرة كوسيلة ضغط من أجل الأداء. يمكن لأي أب أو أم أن يشعر بفداحة هذا النوع من الابتزاز، وعندما نقول بأن على الحكومة والوزارة أن تتحملا مسؤوليتهما في الانتصار لمصلحة التلاميذ، فلأن هناك سوابق انتصرت فيها بعض المديريات الإقليمية لوزارة التربية الوطنية للتلاميذ حين عملت على استصدار شواهد المغادرة لفائدتهم، وذلك بعد التأكد من وجود حالة نزاع بينهم وبين المؤسسة المعنية. خصوصا وأن هاته الأخيرة يمكن لها اللجوء إلى القنوات القانونية المتاحة دون المساس بالسير العادي لتمدرس التلاميذ. وإلا سيكون من حق ولي أمر التلميذ مقاضاة أي جهة ترفض تسليمه هذه الوثائق عن طريق اللجوء للقضاء الاستعجالي علما أن الاجتهاد القضائي حسم في مثل هذه النوازل لصالح ولي أمر التلميذ مع النفاذ المعجل وتحت طائلة الغرامة التهديدية.
إذن ما على الحكومة والوزارة أمام هذه المعضلة سوى التحلي بالقليل من الشجاعة في مواجهة حيتان التعليم الخصوصي لحل المشكلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى