تكلم لكي أراك
يروى أن سقراط كان في جلسة مع عدد من تلامذته يتناقشون حول قضية من القضايا الفلسفية، وجاء أحدهم إلى مجلسه وهو يتبختر في مشيه، مزهوا بنفسه، مختالا بلباسه وشكله الجميل، فنظر إليه سقراط مطولاً، وخاطبه بجملته الشهيرة التي أصبحت مثلا مأثورا: «تكلم لكي أراك».
والحقيقة أننا لا نرى بعض الأشخاص على حقيقتهم، ولا ننتبه لوجودهم أصلا إلا إذا فتحوا أفواههم وتكلموا، عندها نكتشف رجاحة عقلهم، وشساعة ثقافتهم، ونبل أخلاقهم، أو على العكس، نكتشف أننا كنا مخدوعين فيهم حين كنا نحسبهم معنا وأنهم ليسوا مع الآخرين، لنكتشف في نهاية المطاف أنهم «هم الآخرون» بعينهم.
وهكذا يصدق على البعض منهم قول الله عز وجل «وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة».
وقولة سقراط تلك، والتي يقابلها عندنا المثل الذي يقول «تكلم تعرف»، تنطبق إلى حد بعيد على العديد من وزراء حكومة بنكيران، فمنهم من لا يجيد حتى التحدث باللغة الرسمية لبلاده، ومنهم من إذا تكلم «طبز ليها العين» وتمنيت لو أنه حافظ على فمه «مزموما»، مثل الوزير الميني شيوعي عبد السلام الصديقي، الذي صرح في حوار صحفي بأنه كان يسرح الغنم فأصبح اليوم يسرحنا نحن المغاربة، أو مثل مهزلة رفيقته الوزيرة التي تعتقد نفسها حسناء، شرفات اليدري أفيلال، التي ما إن تكلمت حتى اكتشف الجميع أنها فرشات وليس شرفات، ورآها الجميع في كامل عريها الفكري والسياسي وهي تدافع بشراسة القطط عن الريع البرلماني وعن توريث تقاعد الوزراء والبرلمانيين لأولادهم، معتبرة أن 8000 درهم كتقاعد للبرلمانيين ما هي إلا «جوج فرانك».
مع أن «جوج فرنك» الحقيقية هي تلك التي تتقاضاها أرملة كمعاش كنا قد نشرنا قصتها، والذي لا يتعدى 22 درهما في الشهر، ومثلها يعدون بالآلاف يعلن أبناءهن بمعاشات لا تكفي لميزانية كلب من تلك الكلاب التي تربيها أمثال شرفات أفيلال في فيلاتهن الفسيحة.
الوزيرة «فرشات» لا تدري أن هذا الكلام الخطير سياسيا، معناه أن الحكومة التي تنتمي إليها تمنح مواطنيها حدا أدنى للأجور يقل عن ربع فرنك، ولم تفطن إلى أن خطابها «المتبرجز»، من البورجوازية، جر عليها انتقادات شعب الفيسبوك، المعارضة الشعبية الحقيقية في البلد، وأن حملات السخرية من كلامها جابت الفضاء الأزرق، وأرغمتها على التراجع بعدما ذكرها رفاقها التقدميون الاشتراكيون، وعلى رأسهم نبيلة منيب، زعيمة الحزب الاشتراكي الموحد، أن عموم البروليتاريا المغربية تعيش بأقل من «جوج فرانك»، وأن هذه الفئات الشعبية العريضة تحال على التقاعد منهوكة القوى ومكسورة الظهر وتجد نفسها في نهاية العمر «لا حمار لا جوج فرنك».
والآن بعدما اعتذرت الوزيرة «فرشات» أفيلال بعدما «فرشت» نفسها أمام المغاربة، هل سيسحب وزيرها وأمينها العام نبيل بنعبد الله ما كتبه في حقها بعد مرورها في البرنامج عندما نشر في صفحته بالفيسبوك مهنئا إياها على شجاعتها و«قصوحيتها» في مواجهة الخصوم.
ويبدو أن الوزيرة التي ذاقت حلاوة الاستوزار، قد تغيرت نظرتها للأمور بعدما دارت «الحبة» في جيبها، فأصبحت تعتبر 8000 درهم مجرد فرنكين لا يسمنان ولا يغنيان من جوع، وهي بذلك تعطي الدليل على صحة مقولة فقيهها كارل ماركس حين قال إن الموقع الطبقي هو الذي يحدد الوعي الطبقي.
ويبدو أن الوزيرة اليدري لا تدري أن رئيسها في الحكومة، رفقة تلميذه النجيب المجتهد إدريس الأزمي، خليفة شباط في أرضه، الذي سقط سقطة مدوية في أول امتحان تحضير ميزانية الجماعة الحضرية لفاس، يخططان في الكواليس للرفع من مساهمات الأجراء في صناديق التقاعد، عبر التخفيض من أجور الموظفين، والرفع من سن التقاعد تدريجيا إلى 65 سنة، ثم تخفيض قيمة معاشات التقاعد، عبر مراجعة طريقة احتسابها باعتماد معدل السنوات الأخيرة من العمل عوض آخر أجر المعتمد حاليا.
إذا كانت تعلم فتلك مصيبة وإن كانت لا تعلم فالمصيبة أعظم. لذلك فمن حق وزيرتنا الشابة أن ترى أن المساس بتقاعد البرلمانيين والوزراء هو خطاب شعبوي إلى أقصى حد تتحمل مسؤولية الترويج له الصحافة المغرضة الحاقدة والمصابة بداء «تاكلبانيت»، وبأن هذا المطلب هو مجرد ترهات لا قيمة لها.
الوزيرة اليدري، التي لا تدري، تجهل أن المغرب سيدخل بفضل هذا الريع السياسي كتاب غينيس للأرقام القياسية بتوفره على أصغر متقاعدين في العالم، في ظل حكومة جاءت على صهوة الربيع العربي، من أجل القضاء على ثقافة الريع، وستصبح بذلك الشابة الصغيرة اعتماد الزاهدي من حزب العدالة والتنمية متقاعدة في سن 30، إلى جانب الشاب الراضي من الاتحاد الدستوري، الذي سارع إلى الإعلان عن تخليه عن هذا التقاعد، والشاب بنسعيد من الأصالة والمعاصرة، والشاب حسن طارق من الاتحاد الاشتراكي، والله أعلم، وغيرهم ممن دخلوا قبة البرلمان من نافذة التمثيلية الشبابية عبر ما سمي بالكوطا «المسخوطة»، في الوقت الذي يقال فيه لعموم الشعب المغربي إن صناديق التقاعد مثقوبة وتعاني عجزا قد يدخلها مرحلة الإفلاس في القريب العاجل.
غير أنه بدل محاسبة من خربوا تلك الصناديق، اختار العم بنكيران أن يتبنى خطة مالتوسية خطيرة، وذلك بأن يزيد في عمر خدمة الموظفين ليقصر من عمر تقاعدهم، فيخرجوا «ديركت إلى القبر»، ومنهم من ستضطر زوجته لإلباسه «ليكوش» قبل إرساله إلى العمل مخافة أن تتسبب له مشاكله مع البروسطات في فضيحة أمام زملاء العمل.
كما أن هناك العديد ممن نعرفهم سيموتون دون أن يحصلوا على تقاعدهم، فيما سينعم بنكيران وصحبه بتقاعد مريح يؤدى لهم من جيب دافعي الضرائب، ويصرف لهم من عرق جبين الفقراء، وربما يورثوه لذوي حقوقهم بعد عمر طويل.
ورغم أن الوزيرة اعتذرت عن زلة لسانها وسحبت ما قالته عن معاش البرلمانيين، فقد خرج علينا البرلماني «الشاطر حسن»، الذي يحسن التموقع حسب مصدر اتجاه الريح، ليتطرق لموضوع معاشات البرلمانيين معتبرا إياه في تدوينة فيسبوكية له بأنه ليس ريعا كما نعتقد نحن الرعاع، ولكنه يخضع لنظام تعاضدي، مبني على المساهمات الفردية لكل برلماني، في إطار تعاقد بين مجلسي البرلمان والشركة الوطنية للتقاعد والتأمين التابعة لمجموعة صندوق الإيداع والتدبير.
ولأننا لسنا أساتذة للعلوم السياسية والحكامة الإدارية مثل الشاطر حسن، فإننا لم نسمع بشركة تحمل اسم «الشركة الوطنية للتقاعد والتأمين»، ونتمنى لو تفضل سيادته بتزويدنا بعنوانها حتى نتعاقد معها نحن معشر الصحافيين وكل أصحاب المهن الحرة لكي نحصل على تقاعد 2 فرنك نحن أيضا.
ويبدو أن السيد حسن طارق، الذي يحب أن يلعب دور محامي الشيطان، فضل في تدوينته هذه المرة اللعب على الغموض التقني الذي يكتنف صياغة قانون 35.04 الصادر بتاريخ 14 فبراير 2006 بتغيير القانون 92.24 المتعلق بإحداث نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب، والذي تم تطبيق أحكامه على أعضاء مجلس المستشارين بموجب القانون رقم 99.53، وفضل التلويح بمقتضيات الفصل 7 من القانون الذي ينص على تحديد المعاش الشهري لأعضاء مجلس النواب في مجموع 1000 درهم عن كل سنة تشريعية، من أجل إيهام القراء بأن النقاش نابع عن جهل المعارضين، وأن معاش البرلمانيين هو 2 فرنك فعلا، متناسيا أن القانون 92.24 الصادر في 22 دجنبر 1993، الذي هو الأصل وهو الذي سن هذا النظام الامتيازي، ينص في فصله الثامن على معاش قدره 5000 درهم بالنسبة للذين قضوا فترة تشريعية كاملة، و6500 درهم للذين قضوا فترتين، وهي مبالغ صافية معفاة من أية ضرائب ولا تخضع للتصريح حسب صريح الفصل المذكور.
ومع الزيادة في الأسعار التي عرفها المغرب منذ سنة 1993 فلا شك أنه من حق نواب الأمة أن يحصلوا بدورهم على زيادات في معاشاتهم، لكي يتعاونوا بها على «دواير الزمان» في دوائرهم ودواويرهم الانتخابية.
إن ما غاب عن ذهن الوزيرة صاحبة الحسن والبرلماني الشاطر حسن أن البرلمانيين في فرنسا يتلقون معاشا لمدة 6 أشهر الموالية لانتهاء فترة انتدابهم، في انتظار أن يتدبروا أمورهم ويعودوا إلى مشاريعهم ووظائفهم الأصلية، وأن نظام تقاعد البرلمانيين والوزراء لا وجود له في أية دولة من الدول الديمقراطية، لأن منصب الوزير والبرلماني عندهم ليس مهنة يمتهنونها، بل هي مهمة سياسية وتمثيلية أسندت لهم بناء على نتائج صناديق الاقتراع، لذلك يتعين على سياسيينا أن يؤدوا الأمانة إلى أهلها، وأن يكفوا عن التعامل كما لو كانوا موظفين عند الدولة ينتظرون عطاياها، وأن يخجلوا من أنفسهم عندما يروا أن الجنود الذين يرابطون على الثغور ويعرضون أرواحهم للخطر من أجل أمننا وسلامة وطننا لا يستحقون تقاعدهم إلا بعد قضاء 21 سنة من الخدمة الفعلية الشاقة والمضنية.
لذلك فمن واجبنا أن نشكر وزيرتنا التقدمية على «فرشاتها» العفوية، التي فتحت من خلالها المجال لنقاش واسع حول تقاعد البرلمانيين والوزراء، ومن هنا سنطالب كل مسؤولينا بأن يتكلموا في غير الفترات الانتخابية حتى نراهم على حقيقتهم، ونكتشف معدنهم الحقيقي.