شوف تشوف

الرأي

تقارير وأرقام مفزعة

خلال الأيام الماضية، أثار تقرير حكومي ألماني، يوثق تصاعدا غير مسبوق للاعتداءات العنصرية على أماكن إقامة اللاجئين وطالبي اللجوء، الكثير من النقاش في الدولة الأوروبية صاحبة الاقتصاد الأقوى. وصاحب نشر تقرير تصاعد الاعتداءات، تقرير حكومي آخر يتحدث عن انعدام قدرات المدن والقرى الألمانية على استقبال المزيد من اللاجئين وطالبي اللجوء. ورتب التقريران خروج العديد من السياسيين الألمان على الرأي العام، معلقين على الأمر. والحقيقة هي أن العدد الأكبر من الاعتداءات ارتبط بحادثة محددة بشرق ألمانيا، وقعت في 2018، واستدعاها السياسيون المعلقون.

سياسيو اليمين واليسار الديمقراطي استدعوا الاحتجاجات المتكررة، التي شهدتها خلال السنوات الماضية مدينة كيمنتس، الواقعة في شرق ألمانيا. وبينما تمثل السبب المباشر للاحتجاجات، والتي بدأت في 2018، في مقتل مواطن ألماني متأثرا بجراحه في أعقاب شجار بين أشخاص من جنسيات مختلفة، لم يكن لليمين المتطرف أن يحشد المئات في المدينة الشرقية وعلى نحو متكرر، وأن يرفع الشعارات العنصرية الصريحة، ويحفز مؤيديه على تعقب الأجانب، ويدفع الحركات اليسارية إلى تنظيم حشود مناهضة، دون حضور توترات اجتماعية حقيقية، رافدها الأهم هو قضية اللجوء وأزمة اندماج بعض المناطق الشرقية في ألمانيا الموحدة.

ففي 2018، زعمت مجموعة «من أجل كيمنتس» اليمينية المتطرفة، التي دعت إلى الاحتجاجات في أعقاب وفاة المواطن الألماني، أن لاجئا سوريا ولاجئا عراقيا هما من تشاجرا معه، وسببا وفاته. ثم تداولت المجموعة على شبكات التواصل الاجتماعي صورة من أمر قضائي بإيقاف اللاجئين السوري والعراقي، للتدليل على دقة معلوماتها، واتضح في ما بعد أن أحد المسؤولين في شرطة مدينة كيمنتس، هو من سرب صورة الأمر القضائي لليمينيين. وبمزيج من الشعارات المعادية للأجانب والمطالبة بطرد اللاجئين، أنتج اليمين المتطرف حالة من العنف المؤقت في المدينة، وظهرت على الشاشات التلفزيونية لقطات لبعض اليمينيين وهم يطاردون أشخاصا ذوي مظهر أجنبي (أو ذوي مظهر شرق أوسطي على وجه التحديد)، وظهرت أيضا لقطات أخرى لمحرضين من مجموعات عنصرية ونازية وهم يحفزون المشاركين في الاحتجاجات على مواجهة ما أسموه عنف الأجانب، ورفض صمت الحكومة الفيدرالية، وحكومة ولاية ساكسونيا الواقعة بها مدينة كيمنتس وسلطات المدينة، على ما يعتبرونه كارثة اللجوء وضياع الهوية الألمانية، على وقع زحف اللاجئين المسلمين من الشرق الأوسط.

أحدثت حشود اليمين المتطرف صدمة بأوساط اليسار التقليدي (حزب اليسار والحزب الاشتراكي الديمقراطي) واليسار التقدمي (حزب الخضر)، ورتبت الدعوة السريعة لتنظيم مظاهرات مناهضة لليمين المتطرف، ولممارسات العنف ضد الأجانب، ولشعارات العداء للاجئين وطالبي اللجوء الباحثين عن ملاذات آمنة بعيدا عن الحروب الأهلية والإرهاب والدمار في بعض بلدان الشرق الأوسط. غير أن أعمال العنف التي صاحبت احتجاجات اليمين المتطرف، رفعت معدلات الاعتداءات في ألمانيا بين 2018 واليوم إلى الوضع الكارثي الراهن.

شهدت مظاهرات اليسار مشاركة شعبية جيدة، خاصة من قطاعات الشباب والطلاب والنساء والروابط المدافعة عن حقوق الأجانب وعن انفتاح ألمانيا على ثقافات وأعراق متنوعة. تعاطف سياسيون وبرلمانيون وإعلاميون ليبراليون ويساريون مع «إظهار كيمنتس لوجهها المتسامح»، ودعوا الحكومة الفيدرالية وحكومة ولاية ساكسونيا للوقوف في وجه اليمين المتطرف.

غير أن مروجي خطاب التسامح والانفتاح تعاملوا مع انتشار المشاعر السلبية تجاه اللاجئين، تلك المشاعر التي سمحت لمجموعات اليمين المتطرف بالصعود خلال السنوات الماضية، وجاءت إلى البرلمان الفيدرالي الألماني بحزب البديل لألمانيا، تعاملوا معها باستخفاف، وكأن بيانات التسامح تكفي لإخماد مشاعر سلبية يسببها الارتفاع غير المسبوق في أعداد اللاجئين، ويسببها أيضا تورط أقلية من اللاجئين في أعمال عنف وممارسات خارجة عن القانون، مثلما تغذيها السياسات المعادية للأجانب التي تتبناها بعض الحكومات الأوروبية، كالمجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك والحكومة الإيطالية الجديدة.

في كيمنتس وغيرها من المدن الشرقية بألمانيا تتواكب التوترات المجتمعية، التي ترتبها قضية اللجوء، مع تحديات الاندماج بين الشرق والغرب. فالمجموعات اليمينية المتطرفة تكره السياسيين والبرلمانيين والإعلاميين القادمين من غرب ألمانيا، وتتهمهم بالاستعلاء على الشرق، وتصنيف مواطنيه كخائفين من الثقافات والأعراق الأخرى دون وجه حق، وكذلك دون اعتبار للتحديات التي تواجهها بهم قضية اللجوء وقضايا أخرى، مثل البطالة ونزوح الشباب بعيدا عن المدن الشرقية. مجموعة «من أجل كيمنتس» وغيرها من المجموعات كحركة «بجيدا»، التي تأسست منذ سنوات في مدينة درسدن، ترى حكومات شرق ووسط أوروبا التي تتبنى مواقف معادية للأجانب أقرب إليها من حكومة أنجيلا ميركل ومن حكومات الولايات الشرقية، التي يسيطر عليها السياسيون الغربيون.

وفي المقابل، يدافع اليسار التقليدي واليسار التقدمي عن حق الألمان الشرقيين في الحياة في أجواء مجتمعية متسامحة، لا تختلف عن نظرائهم الغربيين، ولا تنصهر في سياقات العداء للأجانب واللاجئين المنتشرة في شرق ووسط أوروبا.

وبين غربة بعض الشرقيين إزاء ثقافة الغرب المتسامحة، وإصرار شرقيين آخرين على تبني التسامح والانفتاح كنمط حياة، بين النقيضين يبدو شرق ألمانيا محدود الاستقرار وغير قادر لا على تجاوز طفولية وخطورة اليمين المتطرف، ولا على التخلص من استعلاء الليبراليين واليسار على المشاعر الشعبية.

عمرو حمزاوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى