تفسير سورة الفاتحة (11)
الطغيان هو أصل الظلم والفساد وكل الشرور والآثام «والذين الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» أما عن حقيقة هذا النور الذي يخرجونهم منه ويجردوهم بالكلية من كل آثاره، فهو نور الفطرة الذي هو أصل الحنيفية التي خلق الله الناس عليها. فالحديث الصحيح «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» والحديث القدسي الصحيح: إن الله جل جلاله قال «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا». وإنما يتمثل الإعجاز والتحدي للبشر جميعا في نماذج من رباهم الله، مقابلة في النماذج الذين استحوذ عليهم الشيطان، حتى نصبوه رباً وإلهاً،عبدوه من دون الله. وما أكثر من عبد الشياطين، فانظروا إلى المثل الأعلى في التربية الإلهية، وهم الرسل والأنبياء وكُمّل ورثتهم من الأولياء. وانظروا في المقابل إلى من زيّن لهم الشيطان دعوى الربوبية أو الألوهية، ما نالوه من الوبال والنكال واستحقوا لعنة الله ولعنة اللاعنين، فإن تربية الله لمن صنعه على عينه قد أبلغته مقام الشهود والقرب، فكان كليماً وشهيدا وسميعا وبصيراً وقويا أميناً وملكاً عظيما، لانت له الملوك جميعا وقهر كل عوالم الشياطين حين سخرها الله بأمره. فأي أحد من الخلق ولو اجتمعت الإنس والجن معه له القدرة في تربية أحد ممن يتمناه أن يبلغه شيئا مما بلغه رسل الله؟ لا شك أن هذا من المستحيل، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يعطي النور من هو فاقده؟ وهناك ما لا يستطيع العقل أن يغضّ النظر عنه وهو شمول تربية الله لكل العوالم التي خلقها الله مما نعلم ومما لا نعلم فيما لا يحيط به العقل. فهذا أيضا من خصائص الربوبية، وحادثة بسيطة من آيات الربوبية التي يشهدها الله من يشاء من عباده، تجعلهم يخرون سجداً لله ويقبلون بكليتهم عليه سبحانه. فهذا ذي النون المصري رضوان الله عليه كان من أكبر قُطّاع الطريق، وبينما هو ذات يومٍ جالسٌ تحت ظل شجرة في البرية يتربص صيدا ثمينا إذ وقع نظره وهو مستلقٍ على ظهره على طائر يقال له القنبرة، فإذا بها عمياء، فتعجب في شأنها كيف تعيش وهي لا ترى ماء ولا ما تأكله من الحبوب؟ وبينما هو يتفكر في ذلك رأى ما أثار عجبه ودهشته، هذا الطائر ينزل على الأرض فينشق من الأرض إناءان، إناء من ذهب وآخر من فضة، الأول مملوء بالسمسم والثاني بالماء، فإذا بها تأكل من هذا وتشرب من ذاك، ثم تطير إلى الشجرة. فقال في نفسه: الله يرزق هذا الطير الأعمى وأنا في غييّ في عمى عن هذه الحقيقة، فتاب على الفور وأقبل على الله زاهدا في الدنيا وما فيها، متوكلا على الله، فكفاه الله كل هم الرزق، ورضي بما قسم الله له. وهذه حقيقة أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» وهو صريح قول الله جل جلاله «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً».
فإذا كانت التربية الإلهية للعالمين جميعا من أخص خصائص الذات التي تستحق الحمد من كل المخلوقات، فإن كمال التربية أن تكون قائمة على الرحمة العامة والخاصة، لهذا أعقب الربوبية باسمه الرحمن الرحيم، والرحمن هو مجلى وجه ذي الجلال والإكرام، البارز للعيان لأهل الشهود، ممن جعلهم الله له من الشهداء. ذلك أن تجلي الاسم المفرد لفظ الجلالة الله، لا يطيقه أحد من المخلوقات فكان من رحمة الله وكرمه في تنزلات ذاته تعريفا بجلال شأنه وعظيم جوده وكرمه، أن تنزل إلى مستوى من اصطفاهم واجتباهم من الرسل والأنبياء. وهذا التنزل دليل على عظيم القدرة التي لا يستحيل شيءٌ عليها أن يكون في بمقدورها، وبالمثل يظهر للعيان معنى هذا التنزل، فالعالم النحرير الذي بلغ في العلم درجة فوق مستوى عقول البشر، من الملاحظ أنه إذا لم يكن بمقدوره أن يتنزل إلى مستوى المخاطبين وعلى قدر عقولهم، فإنه لا يستطيع أن يوصلهم إلى درك حقيقة ما يريد أن يتحدث لهم به. ولهذا كانت قدرة الذي بلغ أعلى الدرجات في العلم على أن يوصل المعلومة التي لديه إلى أبسط مستويات العقول التي هي خالية عن العلم أصلا. فهذا هو الذي يشار إليه بالبنان، ويحظى بالقبول والمحبة والتقدير والاحترام لدى كل من يعلمه ويربيه.