شوف تشوف

دين و فكر

تفسير سورة الفاتحة (01)

د. عبد الجليل العبادلة
فالحمد إنما خُصّ بلفظ الجلالة الله، لأنه الحامل لحقيقة مسمى الذات بكمالاتها على ما هي عليه قبل التنزل إلى عالم المثال. والفارق كبير في أن تشهد مثل نور الله وأن تشهد نور الله الحارق الخارق، كما هو المثل في أن تشهد نور الشمس وأنت في الظل، على أن تشهده وأنت في صميم أتون جهنم الشمس. ومن هنا تدركون سر هذا الفضل العظيم والرحمة الكبرى للمؤمنين، حين يقول «يظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» وما الظل إلا عالم اللطافة التي يستطيع بها الإنسان أن يشعر بمتعة الحياة فيما يحمل العرش من جلال أسرار الذات التي لا يملك معها الداخل فيه أن يشعر بشيء من ذلك. وإنما هو على ما أشهدنا الله اصطلام في أنوار الجلال القاهر، الذي إن دخل في أتونه، هو مقهور في عالمه، متلاشٍ في بشريته، فلا قدرة له على المكوث فيه، ولا يلتفت إلى شيء من متاع الدنيا أو الآخرة. ومما يروى عن المسيح عليه السلام، أن رجلا قد اتبعه على المكوث فيه وجرى مسافة طويلة فالتفت إليه وسأله: لم تتبعني؟ قال: أريد محبة الله، فدعا له المسيح عليه السلام ثم تركه وانصرف، فخطر على باله بعد عام، فسأل الله عنه فقال له: ارجع حيث فارقته، فلما وصل إلى المكان وجده على ما تركه واقفا لم يتحرك قيد أنمله، فسأل الله فأجابه: أرأيت من أذقناه طعم محبتنا أنحوجه إلى شيء سوانا؟. وهكذا لو وقف الدهر كله لا يتأثر بكل ما يتأثر به الخلق من تقلبات الأجواء أو الإحساس بالتعب أو الجوع والعطش، وهذا أمر أشهدنا الله إياه وتحققناه وفيما كنا فيه التجأنا إلى الله أن يعافينا منه، إذ لا معنى للحياة فيه من كل ما ينعم به أهل الدنيا والآخرة. ومن هنا كان الله مستغنيا بذاته عن كل ما يحتاجه البشر وكل مخلوقاته، وتلّطف بهم باسمه الرحمن الرحيم ليشعروا بلذة النعيم المقيم، ويزدادوا كل يوم منه ما تقر أعينهم، فلا يشعرون بالملل أبدا، ولذلك كان الحمد خاصا بلفظ الجلالة الله. وقد بيّن الله جل جلاله لخلقه أجمعين موجبات هذا الحمد في قوله «رب العالمين». وفي هذا إشارة إلى أن موجبات الحمد إنما تتمثل فيما تحمله الذات من الخصائص والمزايا التي تفردت بها عن الخلق أجمعين، فمعلوم أن البشر إنما يحمدون على صفاتهم، إن كانت صفات كساهم الله حُللها وزينتها من أسمائه وصفاته كالصدق والعفو والتسامح والقوة والمنعة ونفاذ الإرادة، فضلا عن المهابة والعلم والخبرة والإبداع بالصناعة أو الجاه والسلطان والمُلك الذي لا يُقهر. فهذه من دواعي الحمد الخاصة بالذات. أما دواعيها الأخرى فهي ما تفيضه على الكائنات من النوال والعطايا والنفحات والأنوار والبركات، ما به قوام حياة كل كائن حي، وبه يبلغ الغاية التي خُلق من أجلها. وهذا من خصوصيات التربية، لأن التربية إنما هي تبليغ الشيء إلى كماله تدريجيا حتى يستوي وينضج ويكون أهلا وصالحا للخلاقة عن الله في الأرض، وهذا لا يتأتى بغير أن يجعله الله بقوته وقدرته الخارقة، والجعل خلاف الخلق فالجعل فيه إشارة إلى تحويل الصفات والمواهب والقدرات وتغير صبغة الذات. بينما الخلق هو التكوين على ما برز في صورته الأولى، فالله جل جلاله كما يقول «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ..».
والتربية نوعان تربية للصعود، وأخرى تربيةٌ فيها النزول، ومن هنا تعرف الحقائق وتنجلي بأضدادها، فالتربية التي يكون بها الصعود إنما هي تربية الله الرحمن الرحيم، أما التي يتم بها النزول فهي تربية الشيطان الرجيم، والشيطان إنما يأمر بالفحشاء والمنكر ويعد بالفقر والفاقة وهو مصدر كل الشرور والآثام بما يسوّل ويزين للنفوس البشرية التي لم يزكيها أهلها. ومن هنا نتبين حقيقة قول الله «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» والنور هو أخص خصائص الذات الإلهية، فلم يعرّف الله جل جلاله عن هويته الذاتية بأجمع من كلمة النور حيث قال «الله نور السماوات والأرض» فهذه التربية الصاعدة إنما تبلغه مقام المعية والعندية في رحاب شهود الحضرة الإلهية بكمالاتها على قدر ما تطيقه الذات، وإن كانت الأمور في هذا متفاوتة على مقدار ما يؤتيها الله من الطاقات والقدرات ولفت النظر إلى تربية الشياطين حيث وصفها بالطاغوت، وفي هذا اللفظ زيادة في الدلالة على الطغيان «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى