تفسير سورة الفاتحة.. مظاهر التحدي في البسملة (4)
د. عبد الجليل العبادلة
وفي هذا كشف عما هم فيه من نقص في العلم بالله وأنه سبحانه وتعالى حاشاه أن يسند منصب الإمامة ويحمّل الأمانة من ليس لها أهلاً، ولذلك كان أمره لهم بالسجود خارج إطار الصورة البشرية غير المسوّاة. فقال سبحانه «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ». إذا آدم عليه السلام بعد هذه التسوية ونفخ الروح الإلهية فيه، وهي روح بسم الله الرحمن الرحيم، مثل نور الله فقعوا له ساجدين ولما كانوا من أهل الأنوار شهدوا ما قام فيه واستوى على عرش قلبه هذا الاسم الأعظم الجامع للكمالات الإلهية المقدور على مشاهدتها وحملها، حيث بما لها من الصفات والأسماء تتلاشى معها ظلمات عالم البشرية. وهذه هي حقيقة الخلق الجديد الذي كان ولا يزال البشر في لبس منه. حيث يقول الله جل جلاله «بل هم في لبس جديد» وهذه حقيقة صلاة الله على المؤمنين بإخراجهم من ظلمات بشريتهم حيث يؤيدهم بنفس هذه الروح فيكونون بها من حزبه «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه» وبمجرد أن قامت فيه هذه الروح وخالطت كل ذراته قيام الروح البشرية في الكائن الحي صار لها هذا السلطان، ومن خرج عن حكمها خرج عن حكم الله، ومن سار في ركاب حاملها فهو السائر في ركاب الله ومعية الله. فمن هنا كانت الإشارة فيما أفاضه الله على قلبه الشريف من علو شأن الكلام الذي يصعب على العقل البشري المحدود أن يعيه. وإنما كان ملاذي وتوجهي إلى الله سبحانه أن يتلطف بتنزيله إلى مستوى عالم العقول المؤمنة المؤيدة بنور من الله، كانت به متسمة بالإيمان الذي هو التصديق والتسليم، فكشف أن حقيقة هذه الروح المتسمة بصبغة الألوهية المتزرة والمتنزلة بصفتها الرحمانية لتظهر بالكمال والتمام في حقيقتها الرحيمية، وهي بذلك المسماة بحامل الأمانة ووارث الرسالة الذي هو خليفة كل من حملوها. وبهذا يكون هو إمام العصر والزمان، أقسم الله جل جلاله بهذا المظهر الذي جعله مثلا لنوره، على أن الحمد لله رب العالمين ذلك أن أحدا لا يمكن أن يكون حامدا لأحد إلا إذا عرف فيه ومنه ما يمكن أن يحمد عليه، فالحامد لشخص لا يعرف علام يحمده فإن حمده غير مقبول ولا معقول حتى عند المحمود من قبله، وهذا معظم حمد أهل الغفلة عن الله. الذين لم يصلوا إلى مقام العرفان والشهود الذي وصل إليه الأنبياء والمرسلون، فهداهم الله لكل ما هدى إليه أنبيائه من العلم والمعرفة والتسوية مع الزينة الإلهية والتحلية. ولنا وقفة بإذن الله مع الكشف عن حقيقة الحمد ومراتبه عند الحامدين الذي لا يتناهى أبد الآبدين
أما عن حقيقة الحمد فإنه يشمل فضلا عن التوحيد الخالص لله الذي تضمنته كلمة سبحان الله، حيث إذا تمت المعرفة بإتمام نعمة الدين بلغ سر الإخلاص في تنزيه الله عن كل ما جرى على قلوب البشر في تصورهم للذات الأقدس، وإنما كان توحيده قائما على مشاهدة تجليات أنوار الذات بكل الشؤون التي تضمنتها الأسماء والصفات، بما يعجز القلم عن البيان واللسان عن النطق بما هنالك من لطائف الأسرار، هذا كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نصف الميزان في قوله: «سبحان الله تملأ نصف الميزان والحمد لله تملأ الميزان» ذلك أن حقيقة الحمد إنما هي الثناء بالجميل على وجه التعظيم والتبجيل فمن أبلغه الله مقام الشهود تلاشى من أمام ناظريه كل معنى واعتبار لأي شأن من مظاهر الخلق أن يستحق منه لفتةً أو نظرة أمام ما يشهد من الكمالات. فمن هنا كان الحمد هو رأس الشكر لله وما من نعمة يشهدها الخلق دنيوية أو دينية إلا وكلمة الحمد أوفى منها وأعظم. وهذا من فضل الله وكرمه على عباده أن هداهم إلى النطق بهذه الكلمة الجامعة لكل خصائص الذات في ما تجلت به من كنزها الخفي على سائر المخلوقات التي كانت ولا تزال لوحات فنية معبرة عما أودع فيها من السر المكنون الناطق بعظيم شأن الذات فيما لا تستطيع العقول أن تحيط به أو تتخيله. وإذا كان البشر إنما يحمدون ما سواهم إما على صفات كريمة أو أفعال متميزة ظهر نفعها للعباد وخيرها للإنسان معرفة ورحمة وتقدما وطيب عيش، في أمنٍ وأمان ورفعة شأن في عزة واقتدار وتحرير النفس البشرية من كل مظاهر العبودية ليتساوى الوضيع مع الرفيع، فلا تعود هنالك الفوارق البشرية التي بها يتعالى الإنسان على أخيه الإنسان فإن أحداً أمام ما اتصفت به الذات وتميزت به من الكمالات لا يساوي شيئا ولا قيمة ولا اعتبارا، خصوصا إذا أدرك يقينا أن كل ما شهد من المتميزين من البشر بالمعارف والصناعات والاكتشافات التي عادت بالخير على عموم وسائر الناس، إنما هي من هداية الله لهم، ذلك أن ما من شيء أراد الله أن يظهره إلا وألهم به من شاء في مظاهر الدنيا جعلها لأهل الدنيا وفي مظاهر أهله جعلها جامعة للدنيا والآخرة.