تفسخ النظام السوري (1/2)
في ورقته «تفسخ النظام السوري أسوأ بكثير مما يُعتقد»، وهي مادة شديدة الأهمية وغزيرة المعلومات ويُوصى بها لكلّ حريص على معرفة البنية الداخلية الراهنة لما تبقى من نظام آل الأسد (بالإنكليزية، نُشرت أمس في موقعWar on the Rocks)؛ يبدأ توبياس شنايدر من اقتباس روبرت مالي، أحد مستشاري شؤون الشرق الأوسط الثقاة لدى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في حوار له مع آرون ديفيد ميللر، من الـ«فورين بوليسي». يعيد مالي سرد أولويات أوباما في الملف السوري، ويشدد على اثنتين منها: الحاجة إلى الموازنة بين الهواجس الإنسانية والرغبة في «الحفاظ على مؤسسات الدولة»، وتفادي فراغ السلطة بحيث لا تنزلق البلاد إلى الفوضى الشاملة.
والحال أنّ فقرات ورقة شنايدر لا تثبت، بتفصيل دقيق ومتأن، أنّ مفهوم «الدولة»، ضمن بنية ما تبقى من النظام السوري، آخذ في التفسخ والتفكك والانحلال، خاصة خلال السنوات الثلاث الماضية، فحسب؛ بل إنّ «أطراف» النظام ـ القائمة على ميليشيات محلية وطائفية الطابع مثل «صقور الجبل»، أو جيوب عسكرية ـ ميليشياتية مثل «قوات النمر» ـ باتت مستقلة أكثر فأكثر عن مركز النظام في دمشق، أو فرعَيْه في اللاذقية وطرطوس، واستقلت معها مواردها الاقتصادية والريعية القائمة على النهب وتجارة المخدرات والرهائن والإتاوات. ولم يكن الصدام العسكري المباشر، في تدمر، قبل أسابيع، بين عناصر «صقور الجبل»، جماعة محمد وأيمن جابر، من جهة؛ وعناصر «قوات النمر»، جماعة سهيل الحسن، من جهة ثانية؛ سوى الواجهة الأعلى إفصاحاً عن صدامات أخرى أضيق نطاقاً بين ميليشيات أقلّ شأناً (كما في محيط مصياف، بين اثنين من زعامات ميليشيات «الدفاع الوطني»: فادي قريبيش، قائد منطقة بعرين؛ وأحمد سيغاتا، القائد في منطقة حربنفسة).
فإذا توقف المرء عند التسميات ذاتها، التي تتخذها شبكة ميليشيات الموالاة في مختلف المناطق التي ما تزال تحت سيطرة النظام، في الساحل السوري وريف حماة تحديداً («لواء أسود الحسين»، «القوة الجعفرية»، «لواء سيف المهدي»…)؛ فإنّ مشهد التفسخ والتفكك والانحلال يتخذ بُعداً إضافياً هو التشرذم الجغرافي وتدنّي الترابط وانعدام التنسيق. وهذا يتكامل، وإنْ في أبعاد مالية واستثمارية صرفة أحياناً، في نموذج «جمعية البستان الخيرية»، التابعة لآل مخلوف، في قرية بستان الباشا مقرّ العائلة. صحيح أنّ تأسيسها يعود إلى عام 1999، وأنها قامت أصلاً على ركائز الاستقلال التام عن مؤسسات «الدولة»؛ إلا أنّ الأدوار التي لعبتها الجمعية في ملفات إنشاء وتسليح الميليشيات، ثمّ ما رشح مؤخراً عن تمتعها بمعونات مالية مباشرة من الأمم المتحدة، أعاد تجذير الجمعية في قلب البنية الراهنة من تفسخ النظام.
مظهر ثالث، يتوقف عنده شنايدر أيضاً، هو الظاهرة التي طفحت مؤخراً في «انتخابات» ما يُسمّى «مجلس الشعب»، وكيف انقلبت ـ رأساً على عقب، أحياناً ـ المعايير التقليدية في اختيار مرشحي السلطة، والتي اعتُمدت طيلة عقود «الحركة التصحيحية»، أو بالأحرى منذ تأسيس هذا المجلس الكاريكاتوري. ففي الماضي كانت معايير الولاء، والاستزلام، والقرب من شبكات الأجهزة وحزب البعث، والتمثيل العشائري أو المذهبي أو الطائفي، هي السائدة عند تشكيل قوائم «الجبهة الوطنية التقدمية». أمّا في «الانتخابات» الأخيرة، فإنّ الحصة الأدسم في قوائم السلطة ذهبت إلى ممثلي الميليشيات وشبكات التهريب وتجارة المخدرات وجباية الإتاوات والاتجار بالمعتقلين والمخطوفين والرهائن… وفي مقابل التراجع الهائل لنفوذ حزب البعث في صياغة القوائم، لوحظ أنّ سطوة الأجهزة الأمنية تراجعت بدورها، واحتكر العملية رجال من آل الأسد، ومخلوف، وجابر، ونصور، وصقور…
وفي العودة إلى روبرت مالي (وهو، للإيضاح المفيد ربما، يشغل المناصب التالية: المساعد الخاص للرئيس في مجلس الأمن القومي، وأحد كبار مستشاريه في الحملة ضدّ «داعش»، ومنسّق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج العربي، فضلاً عن أنه مخضرم بدأ عمله في البيت الأبيض خلال رئاسة بيل كلنتون)؛ ما الذي يعنيه، حقاً، برغبة «الحفاظ على مؤسسات الدولة»؟ بل ما الذي تبقى منها، بالفعل، ويجيز له بالتالي الحديث عن تفادي سقوطها في الفوضى الشاملة؟ وبعد إقراره هكذا: «ليس في وسع أحد، ولست أنا بالتأكيد، أن يقول بأي مستوى من الثقة ما الذي يمكن، أو أمكن، القيام به لتفادي هذه المأساة» في سوريا؛ لماذا، إذن، يبدو مالي واثقاً من إمكان تحقيق تلك الرغبة («الحفاظ على مؤسسات الدولة»)؟ ولماذا كلّ هذا الحرص عليها، هو العليم بحال تفسخ النظام وتفككه إلى أطراف ميليشياتية وعصاباتية وطوائفية متشرذمة؟
ثمّ، ألا يبدو مالي وكأنه يناقض سيده، أوباما، حين يتحدث عن الخشية من وقوع «فراغ» في السلطة؟ ففي أواسط العام 2014 كان أوباما، خلال حوار شهير مع قناة سي بي إس، قد اعتبر أنّ «داعش» استغلت «حدوث فراغ في السلطة في سوريا، فبادرت إلى جمع الأسلحة والموارد وتوسيع سلطتها وقوتها على الأرض». الفراغ موجود، إذن، منذ سنتين على الأقلّ، باعتراف الرئيس نفسه؛ بل أكثر من هذا: «فكرة وجود قوّة سورية معتدلة جاهزة لهزيمة الأسد ليست صحيحة، والتالي فإنه بكل الأحوال الفراغ سيكون موجوداً»، تابع أوباما. وإذا كان قد تحسر، يومها، هكذا: «لقد قضينا الكثير من الوقت ونحن نعمل مع المعارضة المعتدلة في سوريا، لا يمكن لمزارعين وأطباء أسنان لم يسبق لهم أن حاربوا، أن يتغلبوا على نظام الأسد والمجموعات الجهادية»؛ فكيف سيعمل اليوم، وفق منطق مستشاره مالي، مع صقور محمد وأيمن جابر، أو نمور سهيل الحسن؟ وهل ملاعبة الطيور الجارحة والحيوانات اللاحمة أسهل، وأفضل وأجدى، من العمل مع مزارعي وأطباء أسنان المعارضة السورية؟
الأغلب أنّ مالي ـ بصرف النظر عن مقدار أمانته في تمثيل موقف أوباما إزاء هذه القضية ـ ينتمي إلى ذلك الفريق من مستشاري البيت الأبيض، من الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري على حدّ سواء، الذين طرحوا المعادلة التالية: إذا جاز القول إنّ النظام السوري لم يكن صديقاً لأمريكا، على غرار الصداقات الكويتية أو السعودية أو المصرية، فهل يجوز الاستطراد بأنه عدوّ لدود؟ والذين، تالياً، أجابوا هكذا: كلاّ، سيما طبائع الحاكم والحكم والاجتماع والعقيدة والاستبداد والفساد؛ واستطردوا: على العكس، هذا أحد أفضل الأنظمة التي شهدتها سوريا في خدمة المصالح العليا الأمريكية: منذ «اتفاقية سعسع»، 1974، التي أدخلت نظام فصل القوّات وجعلت الجولان منطقة هدوء قصوى للاحتلال الإسرائيلي، وأمان مطلق للمستوطنين؛ وصولاً إلى التعاون الأمني الوثيق بين الأجهزة السورية والأمريكية، في ما تسمّيه واشنطن «الحرب على الإرهاب»، والتي نقلها سيمور هيرش على لسان بشار الأسد، في «نيويوركر»، ذات يوم غير بعيد؛ دون نسيان الانخراط العسكري الرسمي في عداد الجيوش التي شكّلت تحالف «حفر الباطن»، والتمهيد لعمليات «درع الصحراء»، 1991.
ومنذ ربيع 2005، أي في ذروة ما كان يوصف بـ«الضغط» الأمريكي على النظام السوري»، أعلن آدم إيرلي، نائب الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية، أنّ واشنطن ليست معنية بتغيير النظام السوري؛ ونفى وجود «خطط بديلة عن نظام بشار الأسد»، وأكد على نحو بليغ واضح: «النقاش دار حول كيفية مساندة رغبة الشعب السوري في الإصلاح، وفي حرّيات أكبر، وفرصة أفضل… من داخل النظام القائم هناك حالياً». من داخله، إذن، أو عبر مؤسساته، تماماً كما يردد مالي اليوم؛ فالصقور أمتع، والنمور أبدع!