تفاصيل الصفقات السرية للمتاجرة في المخطوطات النادرة بالمغرب
«كل قديم هنا صالح للبيع. سيارة لا فرق بينها وبين مسرح جريمة. تعج بكتب ومجلدات تنتظر مشتريا قد يدفع الملايين مقابل الحصول على واحد منها. كيف يستطيع شخص أن يحصل على مخطوط نادر بخط اليد ويبيعه لصائدي الكتب النادرة وجامعي التحف؟ إنها مافيا حقيقية».
زبائن بينهم أثرياء ووزراء وسياسيون يدفعون الملايين مقابل كتب لا يقرؤها أحد!
بحسب تجربة المصدر الذي تحدثنا إليه، فإن المباهاة بما تتوفر عليه مكتبات هؤلاء الذين يجوز تسميتهم «مجانين» الكتب، تجعلهم يدفعون أموالا طائلة مقابل تضخيمها على حساب الآخرين.
بحسب المصادر ذاتها، يوجد باحثون ومهتمون يحركهم حب المخطوطات والكتب القديمة وحده، ويدفعون بسخاء منقطع النظير، لتملك كتب نادرة، ربما قد لا تتكرر فرصة وقوعها بين أيديهم إلا مرة في العمر.
كتب تؤرخ لمذكرات بعض الذين زاروا المغرب، أو دراسات أو حتى مسودات لكتب تحمل توقيع مشاهير في أوروبا والمغرب، يعد الحصول على نسخها الأصلية تشريفا كبيرا لهؤلاء الذين يقتنونها.
بحسب تجربة هؤلاء الذين تحدثنا إليهم، فإن كتبا قد بيعت في المغرب بمبالغ تتجاوز مئات الآلاف من الدراهم، بقيمة تقارب 50 مليون سنتيم في أقصى الحالات. موضوعها حسب هؤلاء لم يكن مهما، لكن الأهم بالنسبة إليهم هو الطريقة التي وصلوا بها إلى تلك الكتب.
يقولون إن ودائع الصناديق الخشبية في الأضرحة القديمة والمنازل العريقة، تعد أهدافا لصائدي هذه الكتب. وارتفاع السعر يرجع إلى كثرة الذين يربطون الاتصال بين صاحب «الغنيمة» والمهتمين الحقيقيين بعملية الاقتناء. كلما ازداد عدد الذين ينشطون في العملية، يرتفع سعر الكتب. المالكون الحقيقيون لا يحظون أبدا بفرصة لقاء المالكين الجدد، الذين يحصلون في النهاية على الكتب النادرة.
هذا بالنسبة للذين يحرصون على اقتناء الكتب بهذه الطريقة. هناك من يحصلون على الكتب والمخطوطات النادرة، بطرق ملتوية تقوم أساسا على السرقة. بطبيعة الحال، فإن الجميع يتبرؤون من سارقي الكتب القديمة الذين يسطون على مكتبات الغير.
هؤلاء، سارقو الكتب والمخطوطات، يبيعونها بأسعار تقل كثيرا عن قيمتها العلمية الحقيقية، لسماسرة يتولون تسويقها بمعرفتهم لتصل في الأخير إلى أيدي الذين يقتنونها.
يعترف المصدر الذي تحدثنا إليه ويقول إن بعض الذين يجمعون التحف لا يهتمون كثيرا بقصة الكتاب والطريقة التي وصل بها إليهم ولا مالكيه الحقيقيين.
ويذكر قصة غريبة تتعلق بنسخة خطية من القرآن الكريم يتجاوز عمرها 400 سنة، سُرقت من منزل عائلة أحد الفقهاء القدامى، توارث النسخة أبا عن جد، إلى أن وصلت إلى أكبر أبنائه بعد وفاته، ليهملها في منزل العائلة القديم، ويعلم بشأنها أحد الذين يتصيدون الفرص، ويبيع الكتاب بمبلغ مجز بالنسبة له، ويحصل عليه أحد السماسرة. هذا الأخير عرض النسخة للبيع بأزيد من عشرين مليون سنتيم لأحد البرلمانيين. والبرلماني قدمه بدوره هدية لأحد أصدقائه الوزراء السابقين خلال سنوات التسعينات.
بالنسبة للكتب التي لا يقرؤها أحد، كما يحلو للبائع الذي التقيناه أن يسميها، فإنها تشهد طلبا كبيرا في السوق المغربي على حد قوله. لأن الذين يبنون الفيلات والإقامات الفاخرة، يخططون دائما، في إطار الزينة والديكور، لإنشاء مكتبة ضخمة يكون غالبا الغرض منها إبهار الضيوف. هكذا يطلبون مجلدات وموسوعات علمية بعشرات الأجزاء، والأعمال الكاملة لكبار الكتاب الفرنسيين والعرب. هذه الطلبات تحقق أرباحا كبيرة لأصحاب المكتبات لأن الطلب يكون كبيرا.
أما الذين يقتنون الكتب النادرة، فإنهم يجمعونها إشباعا لرغبة تسكنهم، لا تهدأ إلا بالحصول على النسخ الأصلية والنادرة لمجموعة من الكتب القديمة، والتي لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم.
هؤلاء يكونون في الغالب مستعدين لدفع أموال طائلة مقابل الحصول عليها، لكنهم، وهنا الخطورة، يعرضون تراثا كبيرا من الكتب لفوضى عارمة سببها السماسرة ولصوص المخطوطات.
أسرار عالم لصوص المخطوطات!
ليس غريبا على بائع كتب محترف أن تعج الكراسي الخلفية لسيارته بكم من المجلّدات. أغلبها لا تحمل أي عناوين. لكنه قال إنه يعلم عناوين كثيرة يسوّق كتبه داخل صالوناتها. زبناؤه من الذين يقدّرون نعمة الكتب، لكنهم يبالغون في تقديرها، خصوصا عندما يدفعون مئات الآلاف من الدراهم، مقابل كتاب لن يستطيعوا أبدا فك رموز كتاباته.
«لا يهمني ماذا يفعلون بها، بقدر ما يهمني أن أوفر لهم الشروط التي يطلبونها. غالبا ما يريدون عناوين نادرة جدا، وإذا كانت النسخة التي أجلبها لهم أصلية.. فإن المقابل يكون مكلفا جدا، وأعترف لك أنهم يدفعون بسخاء».
بدأت عقدة لسان صاحبنا تُفكّ. بعد أن اقتنع بصعوبة بجدوى أن يشرح لنا كيف يعمل باعة الكتب النادرة في المغرب. قادنا إليه أحد المهتمين، بعد أن كان ضحية زلة لسان غير مقصودة، ولم يجد أمام الإلحاح، إلا أن يدلنا على الشخص الذي عرض عليه مخطوطا نادرا، تعود ملكيته إلى أحد الفقهاء القدامى في جامعة القرويين بفاس، وطلب مقابله مبلغا اعتبره صاحبنا خياليا، فلم تتم الصفقة.
50 مليون سنتيم مقابل كتاب عن أحكام فقهية، لا يعلم الشخص الذي طلبه أي شيء عن الطريقة التي خرج بها الكتاب من مكتبة صاحبه الأصلي، أو أحفاده على الأصح، لذلك فضل عدم الحصول على الكتاب وصرف البائع، الذي بدا مستاء جدا، لأنه قال إن الحصول على الكتاب كلفه مالا وجهدا.
التقيناه مرة أخرى، وبصعوبة قبل تحديد موعد آخر مع الشخص الذي تراجع عن اقتناء المخطوط، قبل أسابيع قليلة فقط من هذا اللقاء، ولم يكن يعلم أن الهدف لقاء صحفي، للإمساك بالخيط الأول في نسيج عنكبوتي اسمه: مافيا المخطوطات.
لم يستقبلنا في بيت ولا في مقهى. مكان اللقاء كان ضيقا، يعج بالكتب. الكراسي الخلفية لسيارته الاقتصادية، شهدت محادثة قصيرة، ظن خلالها أننا نرغب ربما في الحصول على مخطوط نادر أو كتاب «غابر». لكن طبيعة اللقاء، جعلته، وهو الذكي جدا، يشتم رائحة فضول غير عادي. بعد أخذ ورد اقتنع أن يروي بعض الأشياء، في انتظار أن تفك عقدة لسانه فيما بعد، ويروي تجربته، ليس فقط كبائع كتب محترف، ولكن كمنقب عن المخطوطات النادرة، و«الريزو» الذي يتاجر بها داخل المغرب.
هكذا تباع المخطوطات المتآكلة بأسعار تفوق قيمة الكتب النادرة بسبب مافيا الكنوز!
المصدر الذي أوصلنا إلى هذا الرجل يؤكد لـ«الأخبار» أنه اقتنى من عنده ما يناهز مائة كتاب في أقل من عشر سنوات، سعر بعضها تجاوز المليون سنتيم للكتاب الواحد، وبعضها الآخر لم يكن يتعدى 5 آلاف درهم في أفضل الحالات.
يقول المصدر إنه مولع باقتناء التحف والكتب النادرة، منذ أن كان طالبا جامعيا خلال سنوات الستينات في إحدى الجامعات الفرنسية، إذ لاحظ هناك أن بعض المكتبات، تتلقى بشكل دائم، طلبات من بعض الأشخاص للحصول على نسخ نادرة من كتب يعود تاريخ طبعها إلى عقود خلت.
أخبره بعض العاملين في تلك المكتبات أن الكتب تُقتنى ليس بهدف القراءة، وأن بعضها يتم اقتناؤه كما تقتنى اللوحات الفنية لكبار الفنانين. يتعلق الأمر هنا بطبعات نادرة من كتب لشخصيات مشهورة في عالم الأدب والفكر وحتى العلوم، تضيع أغلب نسخها لتبقى نسخ قليلة متداولة، يتهافت عليها ثلة من المهتمين بجمع التحف والطبعات النادرة.
يسترسل المصدر بالقول: «لكن الأمر في المغرب مختلف. المهووسون بجمع الكتب النادرة في الغالب يرغبون في لعب دور الوساطة لبيعها لمن يدفع أكثر. بحكم علاقتي ببعض الذين يبحثون عن الكتب النادرة ويتصلون بي لعرضها للبيع، أستطيع القول إن بعضهم ينشطون في التنقيب عن المخطوطات. بعض هذه المخطوطات تكون مختصة في التنقيب عن الكنوز أو تكون عبارة عن رسائل نادرة تعود ملكيتها إلى عائلات عريقة في السلطة. وهناك من يهمهم الحصول عليها، ويكونون مستعدين لدفع أي مبلغ مالي دون المساومة».
لا يبدو على وجه المصدر الذي التقيناه أي استغراب، ربما لأنه متجهم دائما، عندما سألناه إن كان يوما قد اقتنى مخطوطا من تلك التي يقال إنها تستعمل في استخراج الكنوز. كان رده صاعقا: «عرضت عليّ لكني لم أجد أي ضرورة لاقتنائها لأنهم يطلبون مقابلها مبالغ كبيرة لأنها أصلية ومكتوبة بخط اليد، ويتم التأكد بسهولة أنها قديمة جدا. أنا مهتم باقتناء الكتب النادرة التي لم تتبق منها نسخ أصلية صحيحة. لا يهمني أن تهتم تلك الكتب بالتاريخ ولا بالتراث، أو الأدب أو حتى العلوم.. بقدر ما يهمني أن تكون قديمة، وأوراقها أصلية والمداد الذي كتبت به لا يزال واضحا على الورق، وألامس غلافها الجلدي الأصيل.. لا أمانع في الحصول على المخطوطات الأخرى، لكن ليس بالأسعار التي يطلبها السماسرة، لأنهم يعرضونها على المهووسين باستخراج الكنوز، وأنا لست منهم، ولا يمكن أن أدفع مبلغا كبيرا مقابل ورقة يمكن جدا ألا تدل على أي شيء».
يقول أيضا إنه ليس باحثا حتى ينشغل بالبحث عن المخطوطات ومضمونها، ويختصر كل شيء في أن هوسه بالكتب فقط لا يمكن مقارنته مع أي هواية أخرى.
الطريق إلى لقاء «المافيا»
«كنت أتابع دراستي الجامعية بظهر المهراز بفاس، خلال منتصف السبعينيات. وقادني «النضال» إلى الانقطاع عن الدراسة بعد أن اعتقلت رفقة بعض المناضلين. بعد سنة ونصف من الاعتقال وجدت نفسي خارج أسوار الجامعة وامتنعت الإدارة عن قبولي طالبا بها. بعض أصدقائي اعتصموا احتجاجا على القرار الجائر. أنا كانت لدي ظروف خاصة، وكان علي أن أتدبر عملا خصوصا وأن والدتي توفيت بقرية صغيرة بنواحي فاس، وصار لزاما عليّ أن أتحمل أعباء الأسرة في ذلك الوقت، لإعالة إخوتي. وهكذا بدأت أعمل في مكتبة لا تبعد كثيرا عن الحي الجامعي، هكذا بدأت علاقتي بعالم الكتب، والذي أعمل فيه إلى اليوم».
حتى نختصر تفاصيل كثيرة، فإن البداية كما يقول هذا المصدر، الذي بدا عليما، كانت مع كتاب باللغة الفرنسية، سأل عنه مواطن فرنسي، ذات 1984، وعرض مبلغا كبيرا وقتها. 10 آلاف درهم، كعمولة صافية لبائع الكتب، مقابل توفير الكتاب.
يقول البائع عن هذه التجربة: «يمكن لأي شاب أن يضعف أمام هذه المكافأة، خصوصا وأن المبلغ كان كبيرا جدا قبل ثلاثين سنة. أتذكر أن الكتاب كان يتحدث عن تاريخ فرنسا. الشخص الذي طلبه، قال لي إنه يعمل أستاذا جامعيا في باريس، وأنه جاء إلى المغرب في مهمة عمل تمتد لأشهر، وقيل له إن بعض المكتبات القديمة في فاس، تتوفر على كتب نادرة بالفرنسية. بدأت أبحث عن طريق بعض الأشخاص الذين يعملون في مجال بيع الكتب القديمة، وعثرت له على 5 كتب بالفرنسية، كلها قديمة، وتتحدث عن تاريخ فرنسا، والفلسفة، بالإضافة إلى كتاب آخر لم أفهم موضوعه، علما أن مستواي في اللغة الفرنسية جيد».
لم يعد صاحبنا يتذكر عنوان الكتاب بالضبط، لكنه لن ينسى أبدا الخيبة التي أصيب بها، عندما قلّب الأستاذ الفرنسي الكتب الخمسة التي وفرها له، ليمط شفتيه مستهزئا، وكأن الكتب التي جلبها له لا تعنيه. ليعرض مقابلها مبلغا مجزيا، اعتبره بائع الكتب مربحا وقتها، قبل أن تعلمه الحياة والتجارب اللاحقة، أنه تعرض لخدعة على يد المواطن الفرنسي. وضاعت المكافأة التي كانت مقترنة بعنوان دون غيره، لكن القصة كلها فتحت أمامه الطريق نحو عالم الاحتراف.
طلبنا منه أن يطلعنا على السر، ما دام قد تطوع لحكي البدايات. صمت برهة، ووافق على مدنا بالتفاصيل، ما دام، كما يقول، يعتبر الأمر هواية مثلها مثل جمع الطوابع البريدية. رن هاتفه، ليجيب:
-آلو..
ثم صمت قليلا ليستمع إلى ما بدا أنه صوت امرأة تتحدث بالفرنسية، ويجيبها بكلمة مقتضبة: «سأرى ما يمكنني فعله من أجلك». وينهي المكالمة.
يقول: «ما كنت لأقبل الحديث إليك لولا أن صديقي هذا، أحضرك معه. أنا أعلم أنكم في الصحافة تطرحون كثيرا من الأسئلة. وحتى أختصر الأمر عليك. أنا لست سارقا ولست لص مخطوطات أو كتب نادرة. أنا أتاجر في الكتب، والناس يطلبون مني بعض الكتب النادرة، وأزودهم بها. عندما أعلم أن الذي يزودني بالكتب سارق، أمتنع عن إتمام البيع حتى لو كان المبلغ المعروض عليّ مغريا..».
هذه حقيقة سماسرة الكتب: كتاب بيع بمائة درهم وأعيد بيعه بالملايين لهواة جمع التحف
قد تحاول استفزاز شخص يلعب دور الوسيط في عملية بيع الكتب النادرة والمخطوطات، لكن الأكيد أن الذين التقيناهم، بعد أخذ ورد مع السمسار الأول الذي يرفض رفضا قاطعا تسمية نفسه كذلك، يحتفظون جميعا ببرودة دم عجيبة. تزامن نزولنا من سيارة بائع الكتب، الذي يقوم بنوع من السمسرة، يرفض الاعتراف بها، وتوجُّهنا إلى مكتبته، مع اتصال أحد باعة الكتب الآخرين، قادما إليه من فاس هذه المرة، ليعرض عليه بضع كتب قديمة، إن كانت تهمه.
تردد في البداية، وتعلل بضرورة الانسحاب، لكنه اقتنع بقليل من الرجاء، أن يدعنا نحضر لقاء حصريا علّنا نصل مع البائع الآخر إلى نقط أكثر إضاءة في هذه التجارة التي تتهاوى فيها الأرقام كالبورصة تماما.
بعد عشرين دقيقة من الانتظار، وقف شاب في أواخر العشرينات. في يده هاتف وفي اليد الأخرى كيس بلاستيكي تثير ألوانه المتشابكة فضولا كبيرا. بدا صامتا، ما دام لم يجد صاحبه وحيدا في المحل، ولأنه كتوم كما قال عنه الآخر قبل وصوله، فإنه لن يجافز بالحديث عن المال والصفقات أمام «الغرباء».
ما يثير الانتباه، أن صاحب المحل لم يحيه باسمه، ولم يتبادلا أي جملة تبدأ بالأسماء الشخصية للأفراد. كان يحاول أن ينفرد بصاحب المحل: «إذا جئت في وقت غير مناسب، يمكن أن أعود لاحقا». الكيس البلاستيكي الذي بدا واضحا بعد دخوله، أن قيمته كبيرة جدا لما يتوفر عليه من كتب، لم يفارق يد صاحبه، ولم يبادر إلى وضعه فوق منضدة الاستقبال، إلا بعد أن طلب منه صاحب المحل ذلك، ليس مرة فقط، بل مرتين.
وحتى يكسر الجليد والتوتر الذي بدا واضحا في أجواء المحل الذي تفوح منه رائحة الكتب القديمة، ورائحة بخور يصعب تحديد مصدرها بالضبط، أخبر ضيفه الجديد ألا حرج في عرض «الأمانة» عليه.
كان الكيس البلاستيكي يضم 5 كتب. اثنان منها في حالة متردية، لكن تاريخ الطبعة، كما يقول هو بنفسه، يعود إلى سنة 1738، رغم أن الكتابين لا يضمان على دفتيهما أي تاريخ.
يقول أيضا إن الكتابين من تأليف أحد علماء مدينة فاس القدامى، كان مدرسا في جامعة القرويين، ومتخصصا في قواعد اللغة العربية، وأن الكتابين يعرضان على التوالي، تفصيلا في علم العروض وبحور الشعر وتبسيطها لطلبة العلم، فيما الكتاب الثاني يتناول بعض قواعد اللغة العربية.
الكتب المتبقية كانت تحكي عن وقائع مختلفة وعلاقة بعض فقهاء الزوايا ببعضهم البعض، فيما يشبه كتابة المذكرات بلغة عتيقة.
لم يفتح الشاب أيا من تلك الكتب. وبدا وكأنه حذر من ملامسة صفحاتها. ارتدى صاحب المحل قفازين من المطاط الرقيق، وقلّب بخبرة، بعض الصفحات بحذر شديد متصنعا التأمل في مضمون الصفحات، ليطوي الكتب من جديد. ويقول: «الجلد الذي يغلفها أصلي، وكلها مكتوبة بخط اليد، وتحمل توقيعات كثيرة وشروحات في حاشية الصفحات. ليس هناك أي شك في كونها أصلية. وحتى ينهي الصفقة، أخبر صاحبُ المحل ضيفه، أنه «كالعادة» سيتصل به عندما يجد مهتما باقتناء تلك الكتب في الأربع وعشرين ساعة القادمة.
الطريقة التي نطق بها صاحبنا كلمة «كالعادة» بدت غير معتادة، لنفهم بسرعة أن الصفقة لا يمكن لها أن تتم بوجود غرباء بين طرفي الصفقة.
هل يقتني صاحبنا الكتب ليعيد بيعها، أم أنه يلعب فقط دور الوسيط؟ وهو الذي رفض في البداية أن نصفه بسمسار في مجال الكتب، مؤكدا أنه لا يسمسر فيها بقدر ما يقتني منها ما يعرضه على مهتمين باقتنائها وتزيين مكتباتهم بها.
حاولنا استدراج الشاب الصامت إلى الحديث. من أين جاء بهذه الكتب التي لا تخطئها العين. لماذا يتكبد عناء السفر بها لبيعها رغم أنه لا يعرف مضمونها بالتدقيق ولا حتى أسماء الذين كتبوها تدوينا للعلم وليس لعرضه على الرفوف. بدا واضحا أنهم تحدثوا بحماس عن نوعية الجلد الذي يغلف الكتب أكثر مما تحدثوا عن مضمونها. يعترف الشاب في لحظة بوح أنه لم يطلع على تلك الكتب، وأن الذين قدموها له كما يقول، أخبروه بموضوعها.
– «ألم تحاول فتحها مثلا في الطريق؟ ولو بدافع الفضول؟».
– «علمتني التجربة ألا أفتح أي كتاب أنوي تقديمه لهذا الغرض. إنها سريعة التلف وصفحاتها قديمة جدا، إلى درجة يمكن معها تمزيق صفحة من مكانها أو تحويلها إلى فُتات، بأبسط حركة غير مدروسة في تقليب الصفحات. ليست كلها سريعة التلف، لكن بعض الكتب تكون مخزونة لعشرات السنين، وتصبح سريعة التلف.
منذ اليوم الذي حاولت فيه تصفح نسخة قديمة من كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» ومزقت صفحة داخلية دون قصد، وأنا أتحاشى أن أفتح أي كتاب إلا على يد الشخص الذي يود اقتناءه. لأنه يعلم بالضرورة كيف يتعامل مع هذه الكتب، وأغلب المهتمين باقتنائها يعلمون جيدا إن كانت أصلية أو مقلدة وإن كانت طبعة أصلية أو العكس».
• «ما أغلى كتاب بعته؟».
حاول التملص، لكن السؤال كان واضحا. يضحك، متبادلا نظرات حائرة مع صاحب المحل في محاولة ربما للاستنجاد به، ليطمئنه الأخير مبددا حيرته عندما بادر إلى الجواب مكانه: «إنه شاب محظوظ، لقد ربح في الشهر الماضي فقط عشرين ألف درهم صافية بعدما اقتنيت منه كتابين باللغة الإنجليزية. جاء بهما إلي، وقال لي إن أحدا ما وجدهما في منزل مهجور في مدينة طنجة، واحتفظ بهما حوالي سنتين، واقترح عليه أحد أفراد عائلته أن يقوم ببيعها لجامعي التحف. لا أعلم تحديدا كيف وصل صاحب الكتابين إليك (مخاطبا الشاب)..».
وهنا يستطرد الشاب مقسما بأغلظ الأيمان أنه لا يعرف أي شيء عن صاحب الكتابين. يقول: «لا أعرفه ولا يعرفني. لست من الذين يسرقون الكتب أو يتاجرون في المسروقات، لكني أعلم بالمقابل أمورا كثيرة عن الذين يسرقونها من مكتبات الناس ومنازلهم خصوصا المنازل القديمة والأضرحة والزوايا. أنا كنت جالسا في محل بيع الكتب القديمة الذي أشتغل به في فاس. إلى أن وقف عندي رجل يقول إنه يود بيع بعض الكتب. ظننت في البداية أن الأمر يتعلق بواحد من أولئك الذين يبيعون المقررات الدراسية، خصوصا وأننا كنا في شهر شتنبر. لكني قفزت من مكاني عندما رأيت كتابين من الجلد الأزرق، لا يعلوهما أي عنوان، وعندما فتحتهما اكتشفت أنهما مكتوبان بخط جميل، بالحروف اللاتينية، وأن أوراق الكتابين تعلوهما صفرة غريبة ورائحة لا تطاق، تبقى عالقة في الأصابع. فيما كانت بعض الصفحات قد بدأت في التآكل والتمزق من الداخل رغم أنها كانت مربوطة بخيط سميك إلى الدفة الصلبة للكتاب (..) المهم. حكى لي كيف عثر عليها وصدقته. كان يريد بيعها، وكان ينتظر أن أقترح عليه مبلغا معينا. بدا لي أنه غير خبير أبدا بمجال الكتب، واقترحت عليه مائة درهم مقابل كل كتاب، لكنه طلب 300 درهم مقابل كل واحد. وقال لي مؤكدا: هذه الكتب ليست عادية ولن أبيعها بأقل من هذا الثمن. وبعد أخذ ورد تم البيع..».
سألناه إن كان يعرف حقيقة الكتابين، فأجاب بسرعة ليقول إنه غامر باقتنائهما ولم يكن بإمكانه التأكد من قيمتهما الحقيقية. «من الممكن جدا ألا أتمكن من بيعها أبدا. ليست كل الكتب القديمة صالحة للبيع. وعندما وقعت هذه القصة، كنت في بداية مساري في الاشتغال داخل مجال بيع الكتب المستعملة. أخذت الكتابين إلى بعض معارفي، وأخبرني أن أحد جامعي التحف في الرباط يود الحصول على بعض الكتب في الأسبوع المقبل. احتفظت بهما، وعدت بعد أسبوع، بناء على طلب منه، ليقول لي إن هناك من يريد رؤية الكتابين إن كانا نادرين فعلا. جاء رجل يحمل معه زجاجة تكبير، والتقط صورا للكتابين اللذين بحوزتي، وسألني عن المبلغ الذي أريده مقابلهما. لم أجبه. وطلبت منه أن يقدم لي عرضه، وأضفت أن الكتابين نادرين جدا وهناك من دفع مبلغا كبيرا مقابلهما ورفضت البيع. أردت في الحقيقة أن أعطيه انطباعا مفاده أني متأكد من قيمة الكتابين. صمت قليلا وأعاد تفحص الكتابين، وقدم عرضه كالآتي سأعطيك 15 ألف درهم مقابلهما. طلبت 20 ألف درهم وحصلت عليها بسهولة، وأنا نادم اليوم لأنني لو طلبت مبلغا أكبر لحصلت عليه. التجربة علمتني أن مثل تلك الكتب يمكن أن تباع بأضعاف ذلك المبلغ. لاحقا علمت أن الشخص الذي عرضتهما عليه، جنى عشرة أضعاف المبلغ، لأنه قام ببيعهما إلى أجنبي يهوى جمع الكتب القديمة باللغة الإنجليزية. السر كله في العلاقات التي توصلك للذين يدفعون بسخاء مقابل جمع الكتب النادرة والنسخ الأصلية».
ما مصير الكتب المسروقة من مكتبات أشهر العلماء المغاربة؟
يشبه العارفون أمر الكتب المسروقة بأمر اللوحات الفنية. بل ويؤكدون ألا فرق بين اللوحات والكتب والنادرة. صحيح أن بعض اللوحات الفنية بيعت بأسعار خيالية عبر العالم، وليس في المغرب وحده، لكن ما يميز عالم الكتب أن عددها ربما أكثر من اللوحات القديمة في المغرب، بل وتفوقها عراقة من حيث قيمتها التاريخية، لأن المغاربة كتبوا أكثر مما رسموا، وأن الذين يطلبون الكتب يضطرون إلى التقاء عناصر يصعب جدا أن تتبين طريقة حصولهم على تلك الكتب.
يعترف أحد الذين تحدثنا إليهم بهذا الخصوص، أن تجربة أربعة عقود من العمل في تجارة الكتب القديمة، وليس كل قديم نادر كما يقول، جعلته يلتقي وجوها كثيرة تعرض عليه كتبا للبيع، أملا في أن يعرضها بدوره على المهتمين المباشرين بأمر الحصول عليها. لكن هذا الأخير قال لـ«الأخبار» في لحظة اعتراف: «بعت كتبا كثيرة من خلال عملي كبائع للكتب القديمة. يمكن أن أؤكد لك أن المرات التي التقيت فيها عائلة تريد بيع كتب قديمة لديها، في ملكية واحد من أجدادها تبقى مرات قليلة جدا، في مقابل حالات لا يمكن عدّها لكثرتها، لأناس يعرضون كتبا نادرة جدا للبيع، لا أحد يعلم من أين جاؤوا بها ولا كيف وصلت إليهم».