أنس سعدون دكتور في القانون عضو نادي قضاة المغرب
قام المجلس الأعلى للسلطة القضائية أخيرا بتعيين عدد من النساء القاضيات في منصب قضاء التوثيق، بناء على مقترحات من مسؤولين قضائيين في عدد من المحاكم، البادرة التي تحمل رمزية كبيرة، لها أهميتها بالنظر إلى ما شكله هذا الموضوع من مطالب متعددة للمجتمع المدني، ومن تجسيد للالتزام الدستوري بتحقيق السعي نحو المناصفة.
البعد الرمزي لمنصب قضاء التوثيق
يعتبر قضاء التوثيق من أقدم المؤسسات القضائية بالمغرب التي لها رمزية كبيرة ارتبطت بمهام الولاية العامة، فقاضي التوثيق في المخيال الشعبي هو قاضي المدينة الذي ينوب عن «الإمام»، وهو لا يتولى فقط مراقبة مؤسسة العدول وما تنجزه من وثائق ورسوم وشهادات عدلية، بل كانت مهامه تمتد لتشمل الولاية العامة على المحجورين، وقضايا الأحوال الشخصية، فضلا عن السهر على إقامة الشعائر الدينية، مما يعني أنه كان يجمع في عمله بين المجال الديني والدنيوي.
مطلب تأنيث منصب قضاء التوثيق
شكل مطلب تأنيث منصب قضاء التوثيق أحد أهم المطالب البارزة التي رفعتها الجمعيات النسائية، منذ الإعلان عن خطة إدماج المرأة في التنمية، وقد استجاب المشرع إلى هذا المطلب بشكل جزئي، حينما بادر إلى تجزيء صلاحيات قاضي التوثيق وتوزيعها على مؤسسات جديدة قضائية وغير قضائية، إذ تم تفويت صلاحياته السابقة في النيابة القانونية على المحجورين إلى القضاة المكلفين بشؤون القاصرين، والصلاحيات المتعلقة بعقود الزواج العادية والخاصة إلى قاضي الأسرة المكلف بالزواج، وتفويت قضايا الطلاق والتطليق إلى أقسام قضاء الأسرة، وتخويل صلاحيات إقامة البيوع القضائية إلى أقسام التنفيذ بالمحاكم الابتدائية، بينما تم إخراج مهمة إقامة الشعائر الدينية من مهام القاضي المكلف بالتوثيق بعد تنصيب ممثلين لوزارة الأوقاف في مختلف العمالات والأقاليم، وبقي اختصاص قاضي التوثيق محصورا بالأساس في إضفاء الصبغة الرسمية على الشهادات، التي يتلقاها العدول من خلال المخاطبة على العقود، بالإضافة الى مراقبة العدول وتتبع أشغالهم وكيفية مزاولتها، ورغم ذلك بقي هذا المنصب ذكوريا.
تعيين النساء القاضيات في منصب التوثيق بين الصدفة والمأسسة
في سنة 2015 تمكنت قاضيتان من التعيين في منصب قضاء التوثيق عن طريق الصدفة، ففي إطار جهود وزارة العدل لإضفاء الشفافية على طريقة التعيينات في عدد من المناصب، قررت وفي سابقة إعلان شغور عدد من مناصب قضاة التوثيق الملحقين بالسفارات والقنصليات بالخارج، وفتح المجال أمام كافة القضاة للترشيح إلى هذه المناصب، وبعد تلقي الترشيحات تم إجراء قرعة، وهو ما أدى ولأول مرة في تاريخ القضاء المغربي إلى تعيين قاضيتين للتوثيق بكل من باريس وبروكسيل.
لكن وزارة العدل سرعان ما ستتراجع عن هذه التجربة، حينما ستقيد الترشيح لهذا المنصب في الأعوام الموالية، بشرط مدة ثلاث سنوات من الممارسة الفعلية لمهمة قاضي التوثيق، وهو ما يعد إقصاء ضمنيا للنساء القاضيات، طالما أنه لا توجد على المستوى العملي قاضيات مارسن التوثيق بالمغرب.
نضال الجمعيات المهنية من أجل إلغاء التمييز ضد النساء القاضيات
كان لنادي قضاة المغرب منذ تأسيسه السبق في إثارة موضوع «العراقيل التي تحول دون وصول المرأة القاضية إلى مناصب المسؤولية»، والتي أرجعها أساسا إلى «غياب معايير الشفافية والموضوعية في الترشح لهذه المناصب»، وعدم مراعاة مقاربة النوع الاجتماعي في التعيينات.
كما أثارت الجمعية المهنية للنساء القاضيات موضوع إقصاء النساء من مراكز صنع القرار، في اجتماعها مع المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتاريخ 18 أكتوبر 2018، وطالبت المجلس بالحرص على تمكين النساء القاضيات من ممارسة جميع التخصصات، بما فيها مهام قضاء التوثيق، خاصة بعد التطورات الأخيرة التي عرفتها مهنة العدول، حيث تم لأول مرة السماح للنساء بالانخراط في هذه الخطة بأمر ملكي.
من ممارسة القاضيات لمهمة قضاء التوثيق بالخارج إلى ممارسته داخل المغرب
إذا كان تعيين النساء القاضيات في منصب قضاء التوثيق لأول مرة بالمغرب جاء نتيجة صدفة -غير متوقعة-، بعد قرار وزير العدل والحريات سابقا بفتح باب الترشيح لهذا المنصب دون أي قيود، فإن تعيين قاضيات للتوثيق من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية أخيرا جاء نتيجة قرار من المجلس، حيث استندت هذه الممارسة إلى قرار المحكمة الدستورية عدد 89/19 الصادر بتاريخ 08 فبراير 2019، والذي جاء ضمن إحدى حيثياته أن «كفاية استقلال القضاة، سيما المعينين لأداء مهام محددة، يقتضي تعيينهم من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية». كما أن أهمية المبادرة تكمن في أن أسماء القاضيات المرشحات لشغل هذا المنصب اقترحت من طرف المسؤولين القضائيين، مما يجسد التوفيق بين مقتضيات الكفاءة والاستحقاق من جهة، ومستلزمات السعي نحو المناصفة.