شوف تشوف

الرأيالرئيسية

تعليم الكمبيوتر النطق

خالص جلبي

كشفت الأبحاث التي ظهرت في معالجة مرضى الصرع، في المركز العالمي في بون بألمانيا، أن مراكز النطق والفهم تحتل خارطة تشمل نصف الدماغ الأيسر بكامله، وهي من التنوع أكثر من وجوه البشر. كما أن بإمكانها الانتقال إلى نصف الدماغ الأيمن عند الأطفال، في الإصابات اليسرى للدماغ.

والذي أوصل إلى هذه الحقيقة كارثة حدثت في معالجة المريضة «كاثرين برونز»، التي خضعت للجراحة بسبب صرع معند، وتم استئصال المكان المسؤول عن نوبات التشنج الصرعية في مكان بعيد نسبيا عن مراكز الكلام، وتبين أن مركز الكلام عندها في مكان العلة، وبمجرد استيقاظها من التخدير، شعرت أنها تفهم ما يقال لها ولكنها تدور حول الكلمة لنطقها فلا تستطيع، مع أن الكلمة في مرمى الوعي وهو المعروف طبيا «بالحبسة الحركية Aphasia»، أي قدرة الفهم بدون القدرة على النطق.

وهذه الكارثة فتحت الباب لفهم أعمق لمراكز النطق والكلام عند البشر، حيث يقوم علماء مركز الصرع العالمي في بون من ألمانيا بفتح الجمجمة، ثم زرع شرائح كمبيوترية موصولة بأسلاك كهربية للخارج، ثم يجرى تحفيز المنطقة لتحديد مناطق اللغة تماما. وبعد ذلك يتم التداخل جراحيا لتهدئة حالات الصرع جراحيا تلك التي لم تستجب بالأدوية. وهو يذكر بالعمل الرائد الذي قام به الكندي «وايلدر بنفيلد» في جامعة مونتريال لمدة خمسين سنة، بدراسة جغرافيا المخ على أدمغة ألف شخص في حالة اليقظة، ليصل في نهاية أبحاثه التي ظهرت بعنوان «لغز الدماغ Mystery of Mind» إلى أن كل شيء له مكانه، إلا الإرادة الإنسانية فليس لها مكان، وأن الروح لا تفنى بتحلل الدماغ. وكما يقول «فرانسيس بيكون» إن الإنسان عندما يبدأ باليقينيات ينتهي بالشك، ولكنه عندما يبدأ بالشك فإنه ينتهي باليقين، وهو الذي حصل للدكتور بنفيلد، فبدأ بالإلحاد لينتهي بالإيمان.

كذلك يقوم «تيم كرو Tim Crow»، من جامعة أكسفورد، بدراسة ظاهرة محيرة في علم «الجينات» وعلاقتها باللغة، حيث لاحظ أن هناك طفرة في بعض جينات الكروموسوم الذكري، أدت إلى ظهور معجزة «النطق» عند الإنسان. وفي عام 2001م استطاع فريق بريطاني مكون من «سيمون فيشر + أنتوني موناكو Simon Fisher& Anthony Monaco» يعملان في بيولوجيا الجزيئات من جامعة أكسفورد، أن يعثرا على جين مسؤول عن النطق في «الكروموسوم 7»، وكان ذلك بواسطة قصة غريبة لعائلة تعيش في جنوب لندن، آثرا أن يحتفظا باسمها سريا تحت لقب «العائلة KE»، وهي قصة غير مفهومة تماما، فالجدة تنطق هذرا بكلام غير مفهوم. ومن أبنائها الخمسة يعاني أربعة منهم من المتلازمة الطبية نفسها لا يكادون يفقهون قولا. ومن أصل 24 حفيدا يعاني عشرة منهم من الاستعصاء اللغوي ذاته، فإذا تحدثوا لم يفهم أحدهم الآخر، وكأنهم في بابل الذين بلبل الله ألسنتهم، كما جاء في العهد القديم. ومن خلال البحث الجيني الوراثي، عثر عندهم على خلل جيني أعطوه اسم (FOX P2)، وهو ما جعل اللغوي الأمريكي «ستيفن بينكر» يقول بمفهوم «غريزة اللغة lANGUAGEINSTINCT».

وحاول فريق علمي في جامعة جيورجيا في تدريب القرد «بنوبو كانزي» ولفترة سنوات رفع مستوى استيعابه، فوصل إلى مستوى 250 رمزا، ولم يجاوزها في سقف يطوق قدره. أما نظام اللغة عند الإنسان، فهو سماء بدون سقف، كما وصفه «بيتر فارب» في كتابه «بنو الإنسان» بأنه نظام «مفتوح» و«سهل» و«مختصر» و«اصطلاحي» و«ناقل للمعلومات» و«ثنائي»، فالفرق كبير بين دار وضار، وبين قلب وكلب، وبين كفر وفكر. ليس هذا فقط، بل إن الكلام ينقلب ليصبح بلاغة كما يعرفها أهل الفن: «أن المجاز أبلغ من الحقيقة وأن الاستعارة أبلغ من التصريح، وأن الكناية أبلغ من الإفصاح».

مع هذا فقد جاءت مفاجأة من علم الجينات، أن الجين (FOXP2) موجود في الفئران والقرود كما هو موجود عند الإنسان، مما جعلهم يستعينون بالمشهور «سفنتي بيبو svante paabo » أول مكتشف لتقنية «أحافير الجينات Paleogenetic» من المومياء. فقام بالدراسة المقارنة للجين المذكور، ليعثر على فروق في تركيب البروتينات، وهو ما يذكر بالفروق بين إنسولين البشر والخنازير، بفارق حمضين أمينيين.

وحسب «سفنتي بيبو»، فإن «جين» اللغة ليس مفردا، بل هو «سقالة» تشمل تركيبا معقدا مترابطا من الجينات. وهذا يتطلب البحث بين مليارات الجينات، إذا علمنا أن نواة كل خلية تحتوي على ثلاثة مليارات حمض نووي في كود وراثي، يضم أكثر من 40 ألف جين.

كذلك مما لاحظه الفريق العلمي على أفراد العائلة «KE»، أن من اختلط لسانه طاش رشده وتراجع ذكاؤه. فهناك علاقة وثيقة بين «اللغة» و«الذكاء»، فمن احتد ذكاؤه انصقل لسانه، ومن انطفأ عقله انعقل لسانه، والأفكار تختنق باختناق الكلمات. وكما تقول اللغوية «أنجيلا فريدريشي»، من جامعة لايبزيغ في ألمانيا، إن اللغة هي: «الأداة الحاسمة للوعي، وهي في الوقت نفسه الآلة الأهم للذكاء». مع هذا فليس كل ذكي حكيما، وليس كل تصرف رشيدا. وأخوف ما يخاف المرء من كل منافق عليم اللسان.

يحكى أن يابانيا من محاربي الساموراي أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار، لكن الراهب أجابه بنبرة احتقار: أنت تافه ومغفل، أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك. أهان الراهب شرف الساموراي، الذي اندفع في موجة من الغضب، فسحب سيفه من غمده، وهو يقول: سأقتلك لوقاحتك. أجابه الراهب في هدوء: هذا تماما هو الجحيم. هدأ الساموراي وقد روعته الحقيقة، التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه. فأعاد السيف إلى غمده، وانحنى للراهب شاكرا له نفاذ بصيرته. فقال له الراهب: وهذه هي الجنة.

نافذة:
اللغة هي الأداة الحاسمة للوعي وهي في الوقت نفسه الآلة الأهم للذكاء مع هذا فليس كل ذكي حكيما وليس كل تصرف رشيدا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى