تعفنتُ في الزنزانة والفئران أكلت أطراف سجين ميت مربوط معي بسلسلة
ترجمة حصرية لمذكرات المغامِرة البريطانية روزيتا فوربس(21)
يونس جنوحي
«وضعوني في زنزانة مظلمة باستثناء وجود نافذة ضوء صغيرة يظهر منها جدار لا تصله أبدا أشعة الشمس، ولا ينفذ إليها الضوء إلا دقائق قليلة خلال منتصف النهار.
كنتُ مكبلا بسلسلة إلى سجينين آخرين. أحدهما كان ضعيفا ولم يكن يستطيع تحمل وزن الأغلال. لذلك كنا نحمله في ما بيننا عندما كنا نريد التنقل أو الحركة.
رأيتُ في عينيه أنه سوف يموت قريبا، لذلك حاولتُ شغل انتباهه بتلاوة القرآن الكريم، وطلب مني أن أباركه وأوصاني أن أتكفل بعائلته.
طيلة هذه المدة كان أصدقائي يتكلفون بطعامي ويرشون حراس السجن لكي يطلقوا سراحي، لكن أوامر سيدي عبد الرحمن، حاكم طنجة، كانت صارمة. كان يخشى أن تصبح حياته قصيرة جدا في حالة أطلق سراحي.
المعاناة مُفيدة للرجل. هنا يمكنه أن ينظر إلى الأمور بعين مختلفة ويقدر الأمور من منظور آخر. في السجن، يستخدم المرء عقله. تأملتُ حياتي كثيرا وتعرفتُ على أخطائي السابقة. وعرفت أنني في المستقبل يجب أن أكون حرا. كنتُ موقنا أن حظي قوي ولا يمكن تدميره، لكن لم أستطع معرفة متى سوف أصبح حرا.
لا فائدة من محاربة المصير الذي يتحدد قبل ولادة الإنسان. يجب علينا جميعا قبول مشيئة الله. الشعراء يموتون في السجن، والسياسيون يولدون فيه.
سألني الرجال الذين كانوا معي في السجن:
-ماذا سوف تفعل عندما تصبح حرا؟
كنتُ أريد أمرين فقط: كنت أريد استعادة كتبي والانتقام. إلا أنني لم أخبر أحدا أبدا بماذا كنت أفكر.
تكونت في الزنزانة رائحة قذرة جدا وجلبت الحشرات. وبعد مدة قصيرة أصبحت تلك الحشرات هي الأشياء الوحيدة التي تتحرك داخل الزنزانة، لأننا كنا منهكين جدا. كل سلسلة من السلاسل التي تطوقنا كانت مثبتة إلى الجدار. والرجل المريض كان ممددا في المنتصف بيننا.
كانت التقرحات تعلو أطرافنا، كان لونها يميل إلى السواد بسبب سريان الذباب والقمل فوقها، لكننا فقدنا الإحساس بها.
ذات صباح فوجئت بأن الرجل الجالس على يميني لم يكن يجيب.
في ذلك الوقت كانوا قد غيروا السلاسل حتى لا أتمكن من ملامسته. كان علينا الانتظار إلى حلول الظهر تقريبا، عندما يصبح الضوء خافتا قليلا.
عندما حل الضوء، رأينا أنه توفي. كان الوقت صيفا، وكانت الحرارة شديدة جدا. وبقيت جثته إلى جانبنا لثلاثة أيام إلى أن بدأت في التعفن. الحارس لم يجرؤ على إخراج الجثة، لأنه كان خائفا من أن يعتقد الحاكمُ أن السجين هرب.
جاءت الفئران وبدأت تأكل اليدين والرجلين، ولم نكن قادرين على طردها. في الحقيقة كانت عظامه قد بدأت في البروز. لكنه كان وجبة سيئة لها.
وعندما قرروا إبعاد الجثة في الأخير، كان الطوق الحديدي قد غاص في لحمه إلى درجة أنه كان يتعين عليهم تمزيق اللحم لإخراجه. وبقي القيد الحديدي فارغا، شاهدا على قدر ذلك الرجل.
طوال هذه المدة لم يتخل عني أصدقائي وظلوا يعملون لصالحي. حتى أن سيدي محمد الطريس توسط من أجلي، ومنحوني زنزانة أفضل. كانت بها نافذة وقضبان، ومن خلال تلك القضبان كان بإمكان أتباعي أن يوصلوا إليّ الطعام. لكن الضوء كان يؤذي عيني ولم أكن قادرا على الحركة، وأي مجهود للتحرك كان يبدو لي نوعا من العبث.
العرب قدماء ومعتادون على الانسحاب والتخلي عن الأشياء. أما أنتم الأوربيون فتحبون ممتلكاتكم، تهتمون بالمنازل والأراضي أكثر من أبنائكم.
نحن مختلفون. في زمن ما، تكون لدى الواحد منا ثروة ضخمة وعبيد وخدم وخيول وممتلكات.
وفجأة يتغير كل شيء، ولا يملك إلا عباءته وحذاءه، ويرعى الماعز مع الراعي الذي كان خادمه ذات يوم، لكنه يبقى سعيدا، فقد يأتي زمن آخر يصبح فيه ثريا مرة أخرى.
الزرابي والأثاث والغرف الكبيرة، كلها ليست ضرورية لنا بالقدر نفسه الذي تُعتبر به ضرورية لكم.
هل ترين ذلك الرجل الممدد هناك على التراب تحت الشجرة؟ إنه فقير إلى درجة أنه لا يستطيع شراء ما يكفي من طعام لكي يحافظ على جلده فوق عظمه. لكنه رجل سعيد جدا، لأنه عالِم في منطقة «تيلدي»، والناس هناك يقبلون أثر قدميه عندما يمر بجانبهم.
لهذا السبب لم أمت في السجن، كانت لدي أفكاري الخاصة. لا أستطيع إخبارك تحديدا كم بقيت هناك، ربما خمس أو ست سنوات».