شوف تشوف

الرأي

تعطل منطق الأشياء

عمرو حمزاوي

البعض منا يحاول إنقاذ المعاني والقيم الجوهرية للإنسانية ويوظفها لمقاومة الجنون واللامعقول والعبث في عالم يتعطل به منطق الأشياء. عالم تتراكم به ثروات الأغنياء، ويتعمق به فقر الفقراء. عالم تعلن قواه الكبرى منذ 2001 عن حرب على الإرهاب لا هوادة بها، وفي 2021 تستعيد طالبان السيطرة على أفغانستان وتواصل عصابات الإرهاب ارتكاب جرائمها التي لا هوادة بها ولا حدود لها.
عالم يتنصل من مناهضة التمييز على أساس الدين والمذهب والعرق والرأي ويحتفي بحكام وحكومات وبسياسيين وأحزاب يستندون إلى رؤى تمييزية ويروجون لكراهية الآخر، من حاكم الطائفة العلوية إلى الحكومات السنية التي تواجه الدولة الشيعية وأعوانها في بلاد العرب ومن سياسيين يريدون بناء جدار للفصل العنصري بين أغنياء الشمال وفقراء الجنوب إلى أحزاب تطالب بمنع الهجرة وترك الأطفال والنساء والعجائر لمعانتهم مع الحروب الأهلية وصنوف الدمار والخراب بعيدا عن الغرب.
البعض منا يحاول إنقاذ المعاني والقيم الجوهرية للإنسانية إزاء كل صنوف الجنون واللامعقول والعبث هذه. غير أن منطق الأشياء الذي يبحث عنه سرعان ما ينقلب على أعقابه خاسئا وهو حسير. فقد أوشكت الأفكار الكبرى على الانهيار التام. تنهار الفكرة الديمقراطية على وقع سيطرة من «معهم» على العمليات الانتخابية، ونزوع الحكومات المنتخبة إلى انتهاك الحقوق والحريات وإخضاع مواطنيها للتنصت الشامل باستدعاء الخوف من العنف وخطر الإرهاب، وصعود النازيين الجدد والعنصريين الجدد والمجانين الجدد مثل فراوكه بتري (المسؤولة المهمة في الحركة اليمينية المتطرفة «البديل لألمانيا» التي طالبت الشرطة الألمانية بإطلاق النار على اللاجئين الذين يحاولون اختراق الحدود).
تنهار أفكار المساواة والعدالة ذات الخلفية اليسارية إما على وقع انحسار الحكومات التي تطبقها، أو بسبب فشلها التنموي الذريع، أو بسبب تورط نخبها في فضائح فساد واستغلال منصب كارثية. تنهار جاذبية الالتزام العالمي بحق الشعوب في تقرير مصائرها إن لتحايل الأقوياء على حق الضعفاء في تقرير المصير من الشعب الفلسطيني إلى الشعب الكردي، أو لتنصل الأقوياء من حق الشعوب المغلوبة على أمرها في طلب الحرية كما في سوريا واليمن وغيرهما.
تنهار، أخيرا، الفكرة الوطنية التي سعت شعوبنا في بلاد العرب خلال السنوات الماضية إلى إنقاذها بطلب الحرية وبالبحث عن عقد اجتماعي جديد يتجاوز حكم الفرد واستبداد الأجهزة الأمنية ويؤسس لدولة وطنية عادلة وديمقراطية، وانتهى بنا الحال، بعيدا عن استثناءات محدودة، إلى الاعتذار عن المحاولة الديمقراطية أو الانزلاق إلى غياهب حروب العنف والإرهاب وحروب الكل ضد الكل. تعطل منطق الأشياء.
منذ أيام قليلة، انتهيت من إعادة قراءة رواية «1ق84» للأديب الياباني هاروكي موراكامي (نشرت 2009). وما أن ابتعدت عن قراءة النص البديع حتى أدركت سبب جمع هذه الرواية ذات اللغة والرمزية المركبتين بين تحقيق مبيعات عالمية هائلة وبين الحصول على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة. إنه الجنون الذي يحاصر الإنسانية، إنه اللامعقول الذي أحاط بكافة جوانب حياتنا اليومية وأعجزنا عن إنقاذ المعاني والقيم الجوهرية، إنه تعطل «منطق الأشياء» الذي يصفه موراكامي وينطبق على واقع العالم في القرن الحادي والعشرين؛ هذا هو سبب نجاح الرواية.
يقدم الأديب الياباني موراكامي وصفا لتعطل منطق الأشياء في حياتنا البشرية ولاختفاء الحدود الفاصلة بين اللامعقول والعبثي وبين العقلاني والرشيد. على لسان الشخصية النسائية المحورية (أومامه) يورد موراكامي في خواتيم روايته عبارات مثل «لم يعد لشيء منطقه منذ ظهر القمرين، هما سرقا المنطق من كل شيء» و«يصعب جدا أن نفسر منطقيا غير المنطقي»، «نحن نشير إلى هذا العالم بمسميات مختلفة. أسميه أنا 1ق84، بينما يسميه هو مدينة القطط. غير أن كل هذا يعني شيئا واحدا فقط»، «لا أعتقد أنني أستطيع أن أشرح لك كل شيء قبل أن نصل إلى هناك. ليس لدينا متسع من الوقت. ربما لن يسعفني كل وقت هذه الدنيا لكي أشرح لك» وغيرها من العبارات المشابهة الدالة على تعطل منطق الأشياء التي يأتي بها الرجل المحوري في الرواية (تينغو كاوانا). موراكامي هو فرانتس كافكا معاصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى