هشام الإدريسي : باحث في العلوم السياسية
يعد مجال الصحافة والإعلام من أكثر المهن حاجة إلى الضوابط والأخلاق، لما لهذا المجال من تأثير على الفكر والعادات والمجتمعات، ففي ظل التطور الكبير والسريع لتكنولوجيا الاتصال من جهة، وبروز إعلام جديد من جهة ثانية، يتداخل فيه الصحافي المهني مع الصحافي المواطن، والمهنة مع التسلية والضوابط مع الانفلات، نكون في حاجة إلى ميثاق شرف إعلامي يلتزم به الإعلام، كإطار لاحترام آداب مهنة الصحافة ومدونة سلوك ممارستها تكريسا لقواعد السلوك المهني.
فقد حظي موضوع الأخلاق الإعلامية، باهتمام كبير داخل مؤسسات ومعاهد الإعلام والاتصال، ومن قبل الفاعلين الرسميين، على اعتبار أن وسائل الإعلام في وقتنا الراهن تحظى بجمهور واسع وسلطة حقيقية، حيث ظهرت الحاجة الملحة إلى تنزيه مهنة الصحافة وتشجيع ممارستها على أسس أخلاقية.
فإذا كانت الحرية ضرورية لوجود صحافة مسؤولة تساهم في بناء مشروع ديمقراطي حداثي لأي دولة، فإن غياب ميثاق أخلاقيات المهنة يهدد مهمة الصحافة، وبالتالي فالمهنة في حاجة إلى زواج بين الحرية وميثاق الأخلاق تجنبا للفوضى والإساءة إلى المجتمع، فمستقبل وسائل الإعلام يكمن في الحفاظ على رسالتها وعلى موقعها كسلطة مستقلة، وهذا لن يتحقق إلا من خلال التمسك بأخلاق عالية تبعد عنها الإغراءات المتعددة، فمفهوم الحرية إذن لا ينفصل عن المسؤولية، فقد أطلق مؤسس صحيفة «لـــومــــوند» شعارا تعليقا على مقولة هارولد لاسويل، فاعتبر أنه «لا يمكننا أن نقول أي شيء، لأي كان، في أي مكان، في أي وقت وبأي طريقة، لأن ذلك يترتب عليه انعكاسات»، فالمسؤولية عند الصحافي تسبق الحرية، لأن هناك وقعا لما يكتبه، بحيث إنه يتخطى الصحافي ومؤسسته ليصبح شأنا عاما.
إرهاصـات تخلـيق المـهنة
مع بداية تنظيم المهنة في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ موضوع الأخلاقيات يطرح نفسه بقوة في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، كضرورة للحفاظ على موقع المهنة ودورها، إذ لا شك أن أخلاقيات المهنة الصحفية أصبحت مطلبا ملحا وأساسيا لدى العديد من التنظيمات والحكومات وحتى الشعوب، نظرا للدور الذي لعبه الإعلام على الصعيدين الإقليمي والدولي وحتى المحلي، وهو دور أقل ما يذكر عنه أن له سلبيات وإيجابيات على حد سواء، وفي كثير من الأحيان يكون تأثيره السلبي أكثر من إيجابياته ومنافعه، هذا ما دفع العديد من الدول إلى محاولة وضع إطار أخلاقي لمهنة الصحافة، قصد تجنب سلبيات الممارسة الإعلامية وتحقيق رسالة إعلامية فعالة تتسم بنوع من الموضوعية.
وظهرت أولى التشريعات المكتوبة حول أخلاقيات المهنة في مطلع القرن العشرين (فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية)، ومن هذه التشريعات نجد إعلان «تحديد واجبات الصحافيين في بولونيا عام 1896، وإعلان جمعية صحافيين أمريكيين عام 1910 تهم الناشرين ومدراء المؤسسات، والتشريعات الأخلاقية التي وضعتها نقابة الصحافة الفرنسية عام 1918 وتنص على واجبات الصحافي.
الملفت أيضا تقرير وضعه المكتب العالمي للعمل في جنيف عام 1928عن مهنة الصحافة، يحذر من هواة أو متعاقدين ظرفيين يمارسون المهنة ويسيئون إليها، تقرير يشدد من جهة أخرى على الدفاع عن حرية الإعلام، واحترام الحقيقة واحترام الإنســان وتأمين ظروف عمل تضمن ممارسة سليمة للمهنة.
موضوع الأخلاق الإعلامية نال اهتماما كبيرا بين الحربين العالميتين، مع التفكير بتنظيم المهنة وتخصيص تدريس عال لها، من أجل إعداد جيد لصحافيي المستقبل، هكذا بدأت تظهر في مطلع القرن العشرين تشريعات ومواثيق أخلاقية، وتتطور تباعا لتواكب تطور المهنة والتغيير الاجتماعي الذي يؤثر فيها. هذه التشريعات تحدد السلوكيات المثلى للصحافي في علاقاته المهنية في أربعة اتجاهات: علاقاته بزملائه، بمصدر الأخبار، برب العمل والجمهور، يقوم بوضع هذه التشريعات أفراد، مؤسسات أو جمعيات.
إعلان ميـونيخ.. محطة مهمة في تطور تشريعات الأخلاق الصحافية
إعلان ميونيخ أو المعروف بــ«إعلان واجبات الصحافيين وحقوقهم»، الذي تبناه ممثلو نقابات واتحادات صحافيي المجموعة الأوربية التي كانت تتألف من ست دول: فرنسا، ألمانيا الاتحادية، إيطاليا، بلجيكا، هولندا، ولوكسمبورغ، شاركت في وضعه اتحادات من سويسرا والنمسا، هذا الإعلان الذي كان له الوقع العالمي في عالم المهنة، تبناه في السنة التالية لوضع الاتحاد العالمي للصحافيين الذي يمثل الدول ذات التوجه الليبرالي، كما تبنته بعد سقوط جدار برلين الدول الأوروبية التي كانت ذات التوجه الاشتراكي.
وقد كان إعلان ميونيخ سباقا في أنه لم يحدد فقط واجبات الصحافي حيال الجمهور، لكنه حدد أيضا الحقوق التي يحتاجها الصحافي كي يتمكن من القيام بدوره وممارسة مهنته بكل حرية، معتبرا أن حقوق الصحافي ضرورية كي يتمكن من القيام بواجباته.
وحدد هذا الإعلان ما اعتبره واجبات الصحافي وحقوقه، فواجباته: احترام الحقيقة مهما كانت النتائج وذلك انطلاقا من حق الجمهور في معرفتها، والمصداقية في التعاطي مع الأخبار، واحترام الحياة الشخصية واحترام سر المهنة ورفض الضغوط… أما الحقوق فتتمثل في وصول الصحافي إلى المعلومات وحرية رأيه وقراره وقناعاته، فضلا عن حقه في راتب جيد يؤمن له اكتفاء ماديا.
كما رأى إعلان ميونيخ أن المسؤولية الأولى للصحافي، هي تجاه الجمهور وهي تغطي على مسؤوليته حيال رب عمله أو السلطات الرسمية، ففي فرنسا مثلا يمكن للصحافي أن يعبر عن تعارضه مع الخط السياسي للمؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها.
واستنادا إلى ما سبق نستشف أن موضوع تخليق الممارسة الإعلامية كان ولا يزال مطلبا مجتمعيا إعلاميا، على اعتبار أن الأخلاق في نهاية المطاف هي مسؤولية اجتماعية جماعية للصحافة والإعلام وباقي مكونات المجتمع.