تطوران رئيسيان في المشهد السوري
يتدفق المسؤولون السوريون الواحد تلو الآخر، إلى العاصمة المصرية هذه الأيام في وتيرة متسارعة، في وقت تزداد حدة البرود التي تسود العلاقات السعودية المصرية على أرضية الخلافات حول كيفية التعاطي مع الملف السوري، فالقاعدة المتبعة تقول، كلما اقتربت القاهرة من دمشق، كلما ابتعدت عن الرياض بالقدر نفسه من المسافة، إن لم يكن أكثر.
نحن الآن أمام مثلثين يتبلوران إقليميا وعربيا بشكل تدريجي، الأول تركي سعودي قطري مدعوم أمريكيا، والثاني مصري إماراتي أردني يحظى بمباركة روسية.
صحيح أن هناك تداخلا بين بعض أضلاع المثلثين في بعض قضايا المنطقة، فالفاصل هنا يتسم بالمرونة، كما أن هناك أرضية مشتركة بينهما في بعض الحالات، وهي العداء لـ”الدولة الاسلامية” مثلا، والاستعداد للدخول في تحالف مشترك لشن الحرب عليها باعتبارها خطرا يهدد الجميع، مع الاعتراف بأن المثلث التركي القطري السعودي الأقل حماسا، والأكثر تلكؤا، في هذا الصدد لاعتبارات طائفية مرحلية على الأقل.
بالأمس وصل إلى القاهرة السيد محمد وليد غزال وزير الإسكان والتنمية العمرانية السوري، في أول زيارة لوزير سوري منذ قطع الرئيس محمد مرسي العلاقات في حزيران (يونيو) عام 2013، ولحقه اليوم الأحد طراد صالح السالم المدير العام للشركة السورية للنفط على رأس وفد كبير، وكان اللواء علي المملوك مسؤول الأمن القومي الأعلى في سورية قد زار القاهرة قبل شهرين، والتقى الرئيس عبد الفتاح السيسي ومسؤولين آخرين.
من المؤكد أن الرياض لن تنظر بعين الرضا إلى هذا التقارب المتسارع، وسترى فيه تعارضا مع سياستها التي عبر عنها وزير خارجيتها السيد عادل الجبير أكثر من مرة، وتؤكد على حتمية رحيل الرئيس بشار الأسد سلما أو حربا.
ولوحظ أن تبادل «القصف الكلامي» بين الإعلامين السعودي والمصري في الأسابيع الأخيرة يعكس وجود خلاف بين الحليفين اللصيقين حتى بداية العام الحالي، قبل أن تتوجه الرياض إلى الحلف القطري التركي مع تولي العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز الحكم.
التقارب السعودي مع كل من قطر وتركيا اللتين تتهمان باحتضان حركة «الاخوان المسلمين» يسبب حساسية عالية لدى النظام المصري، ورفض القيادة المصرية المشاركة في التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية في اليمن، رغم المساعدات المالية الضخمة التي تقدر بحوالي 20 مليار دولار، وتحفظها على تعاون هذا التحالف مع حزب الاصلاح اليمني، الذي يعتبر ذراعا لحركة «الاخوان»، يسببان «فتورا» سعوديا تجاه العلاقات مع القاهرة، فالحرب التي تقودها السعودية في اليمن حاليا، وتدخل شهرها التاسع تعتبر «التيرموميتر» الذي تقيس من خلاله علاقاتها مع الدول العربية سلبا أو ايجابا، وتتبنى على أساسه مبدأ الرئيس بوش الابن «من ليس معنا فهو ضدنا».
هناك قضايا مسكوت عنها في العلاقات بين البلدين تفوق مسألة التراشق الإعلامي، فالمخابرات المصرية طلبت توضيحات رسمية من نظيرتها السعودية عن أسباب وخلفيات زيارة قام بها الفريق سامي عنان رئيس هيئة أركان الجيش المصري السابق إلى الرياض ولقائه ببعض المسؤولين، قبل شهر تقريبا، فردت الرياض بأنها زيارة شخصية وخاصة، ولكن هذا الجواب لم يهبط بردا وسلاما على قلب الرئيس السيسي الذي يرى في الفريق عنان خصما لدودا، وبديلا محتملا، لما يحظى به الأخير من دعم من واشنطن، التي تنظر بعين الريبة إلى العلاقات المصرية الروسية المتسارعة.
وإذا أردنا أن نعرف طبيعة التحالفات في المنطقة العربية، ومكان مصر فيها، فما علينا إلا متابعة تصريحات السيد نبيل العربي أمين عام الجامعة العربية، كأحد «التيرموميترات» في هذا الصدد، فالسيد العربي الذي يميل حيث تميل رياح السياسة المصرية، ووزارة الخارجية بالذات، أقدم على خطوة لافتة اليوم الأحد عندما أدان بقوة التدخل العسكري التركي في العراق، ووصفه بأنه تدخل «سافر» في أراضي دولة عربية يتعارض مع كل المواثيق الدولية وقرارات الأمم المتحدة، والمفاجئ أن السيد العربي أقدم على هذه الإدانة المحسوبة بعناية أثناء كلمته في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مؤسسة الفكر العربي الذي يتزعمها الأمير السعودي خالد الفيصل أمير منطقة مكة، ولا نعتقد أن السيد العربي كان يمكن أن يقدم على هذه الإدانة في زمن الرئيس محمد مرسي.
تصريحات وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس التي قال فيها «إن الوصول إلى سورية موحدة يتطلب انتقالا سياسيا لا يجب أن يعني رحيل الرئيس الأسد»، وتلويح جون كيري وزير الخارجية الأمريكي غير المسبوق الذي تحدث فيه «عن إمكانية التعاون مع الجيش السوري لمحاربة داعش»، ربما توفر مجتمعة أو منفردة الغطاء للسلطات المصرية في انفتاحها المتسارع على دمشق ورئيسها.
مؤتمر المعارضة السورية الذي ينعقد في الرياض الثلاثاء المقبل قد يظهر الخلافات المصرية السعودية في الملف السوري إلى العلن، ولعل المقال الذي نشره الدكتور هيثم مناع في صحيفة «رأي اليوم» في زاوية «كتاب وآراء»، وهو الذي يمثل مجموعة «مؤتمر القاهرة» السورية «الليبرالية» المقربة من السلطات المصرية، ولمح فيه إلى احتمال انسحابه لاستبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والجيش الديمقراطي السوري، ومشاركة ممثلين عن جماعات تحمل إيديولوجية القاعدة (أحرار الشام)، وربما يكون قمة جبل الثلج في الخلافات السعودية المصرية.
اليوم يزور السيد غزال وزير الإسكان السوري القاهرة، ولا نستبعد أن يكون الضيف الثاني على قاهرة المعز السيد وليد المعلم شيخ الدبلوماسية السورية، للتمهيد ربما لزيارة الأسد، ولا نستبعد أن يكون السيد العربي على رأس مستقبليه في مطار القاهرة، أو في أروقة الجامعة العربية التي جمد عضوية بلاده فيها، ألم يقل قبل بضعة أشهر أنه مستعد للقاء وزير الخارجية السوري في أي مكان أو زمان يحدده الأخير؟
الرئيس الأسد أجاب على سؤال وجهته له مندوبة صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية، عما إذا كان سيلبي دعوة لزيارة الرياض للتباحث حول الملف السوري في حال وجهت إليه بقوله «لا مستحيل في عالم السياسة»، وهذه العبارة تعكس الانقلابات المتسارعة والخطيرة في مواقف العديد من الدول بعد تفجيرات باريس، والتدخل العسكري الروسي في سورية، وإسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية.
المشهد السوري يتغير بشكل متسارع على كل الصعد، وتتغير معه تحالفات، وتختلط الأوراق وتنشأ تحالفات جديدة، وتنقرض قديمة، والأيام والأسابيع المقبلة حافلة بالمفاجآت، وسنستمر في رصدها وتحليلها، وليس لنا أي خيار آخر.